الثلاثاء، 23 يوليو 2013

لماذا نترجم الأدب؟

لماذا نترجم الأدب؟
قضت حكمة الله أن يجعل الناس شعوبا وقبائل، ويغرس في نفوسهم الرغبة الملحة في التعارف والتآلف، ولم يكن ثمة سبيل أمام هذا الإنسان لتحقيق تلك الرغبة غير تعلم لغة الأمم التي يرغب في التواصل معها، ولما كان إلمام الفرد بمختلف اللغات أمرا مستحيلا جاءت الترجمة لتيسر له سبيل التواصل والتآلف مع تلك الأمم.
وتعد الترجمة من أهم وسائل الاتصال بين الشعوب المختلفة في لغاتها، وهي فعل ثقافي حضاري له جذور ضاربة في تاريخ الإنسانية، وأهميةً متزايدة في حاضر الإنسانية، ومن مختلف المعارف والعلوم التي ترجمت من لغة إلى أخرى حظي الأدب منذ القدم بمكانة بارزة وبقبول واسع وسعي دائم لترجمته، ويأتي ذلك إقرارا بأهمية الأدب في فكر أي أمة من الأمم، فهو وثيقة وجودها وحفظ خصوصية ثقافتها وتكوينها.
 يقول عبده عبود حول أهمية ترجمة الأدب: "كانت الترجمة الأدبية على امتداد التاريخ الثقافي للإنسانية، ومنذ وجدت آداب قومية مكتوبة بلغات مختلفة، هي الشكل الأبرز للعلاقات التي نشأت بين تلك الآداب. فمن خلالها كان كل شعب يتعرف آداب الشعوب الأخرى، فيستمتع بها جماليا، ويستقي منها معلومات وفيرة حول الواقع الاجتماعي والحضاري لتلك الشعوب. وكان الدور الذي مارسته الترجمة الأدبية دورا تجديدا باستمرار، فالشعب الذي يستقبل آداب الشعوب الأخرى ويستوعبها، يطلع على ما في تلك الآداب من أشكال وأساليب وتقنيات وأجناس أدبية ومن مضامين وأفكار، فيتأثر بها إلى هذا الحد أو ذاك، مما ينعكس تجديديا على الأدب المستقبِل الذي أتيحت له فرصة الاستفادة من الآداب الأجنبية المستقبَلة فنيا وفكريا".
ومن خلال مناقشة هذا القول، نجد أن ترجمة الأدب في المقام الأول تعرٌّفٌ على الآخر المختلف عنا لغة وثقافة وحضارة قارة في أدبه، واستمتاعٌ بأدبه وتذوقٌ له، بيد أن الأمر لا يقف عند مجرد معرفة الآخر، فهذه المعرفة هي في واقعها تقييم للذات في أدبها وثقافتها وحضارتها أيضا، يقول أدونيس: "لا يحسن الإنسان فهم نفسه إلا بقدر ما يحسن فهم الآخر. فترجمة الآخر طريقة مثلى لمعرفة الذات...إن ثقافة تكتفي بذاتها وتعزف عن الترجمة يصحّ أن توصف بأنها شبه ميتة". وقد اعترف (جوته) الأديب الألماني بأن ترجمة رائعته فاوست التي قام بها الأديب الفرنسي (جيرار دي نرفال) ساعدته على أن يفهم نفسه.
والترجمة أيضا ـ مثلما نستشف من قول أدونيس ـ حياة للثقافة المستقبلة، حياة تزدهر فيها معارفها وعلوما وآدابها ولغتها أيضا، حيث يقول علي القاسمي إن: "البلدان التي تترجم أكثر هي التي تحقق تقدّما أكبر، وأن أغنى عصور الفكر هي تلك التي تزدهر فيها الترجمة وتتوسع. وأن اللغة العالمية هي ليست تلك اللغة التي يتكلمها أكبر عدد من الناس، بل هي تلك اللغة التي تُرجم إليها أكبر عدد من الأعمال من مختلف اللغات".
ويمكننا أن نضرب مثلا على ذلك بالعصر العباسي الأول عندما انطلقت حركة الترجمة في عهد الخليفة المنصور، وتصاعدت في عهد الخليفة هارون الرشيد، وبلغت أوجها في عهد الخليفة المأمون مؤسس بيت الحكمة، الذي كان مركزا للبحث والترجمة. وشملت الترجمة آنذاك فلسفة اليونان وعلوم الهند وآداب الفرس. وارتفعت مكانة المترجمين وعلا شأن العلم والعلماء الذين لم يكتفوا بالترجمة بل نقدوا ما وصل إليهم من علوم وأضافوا عليه بما استجد عندهم من معرفة، وحديثنا عن الترجمة عامة هو حديث عن ترجمة الأدب خاصة، فلا يخفى على أحد مثلا قيمة الأدب الذي ترجمه ابن المقفع من الفارسية للعربية في ذلك العصر، قيمة يمتد صداها إلى العصر الحديث إذ يعد كتاب "كليلة ودمنة" من روائع الأدب العالمي.
وإذا كانت الحضارة الإسلامية العربية ازدهرت عندما ترجمت، فالواقع العربي اليوم بحاجة ليكثف الجهد في الترجمة من مختلف اللغات، لأن الترجمة سدٌّ للنقص الحاصل في ثقافتنا وأدبنا، يقول ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال: "نحن في دور من رقينا الأدبي والاجتماعي قد تنبهت فيه حاجات روحية كثيرة، لم نكن نشعر بها من قبل احتكاكنا الحديث بالغرب، وليس عندنا من الأقلام والأدمغة ما يفي بسد هذه الحاجات. فلنترجم! ولنجلّ مقام المترجم؛ لأنه واسطة تعارف بيننا وبين العائلة البشرية العظمى، ولأنه بكشفه لنا أسرار عقول كبيرة، وقلوب كبيرة تسترها عنا غوامض اللغة، يرفعنا من محيط صغير محدود، نتمرغ في حمأته إلى محيط نرى منه العالم الأوسع، فنعيش بأفكار هذا العالم وآماله وأفراحه وأحزانه".
ونجد أن ميخائيل نعيمة يدعو لإجلال مقام المترجم، لأنه المسؤول عن تحقيق التواصل بين الآداب والثقافات، وعن انتقاء ما يترجم من تلك الآداب مما يسهم في التعريف بها ويثري الأدب المترجم إليه، فضلا عن المترجم بمهارته في الترجمة يخلق أهمية النص المترجم، فمثلما يذكر غسان السيد أن "شيجل بموهبته الشعرية استخدم لغة ألمانية معاصرة جعلت مسرحيات شكسبير من روائع الأدب الألماني الكلاسيكي، حتى لقد كان في وسع القارئ أو المشاهد الألماني أن يكون أدنى إلى فهم شكسبير وتذوقه من اللندني الذي ليس أمامه إلا أن يتقبل شكسبير في لغته الأصلية".
من جانب آخر تكمن أهمية ترجمة الأدب كذلك ـ مثلما يشر عبده عبود ـ في الأثر الذي يحدثه في الأدب المستقبل بعد استيعابه استيعابًا واعيًا، هذا الاستيعاب الذي يجعل الأدب المترجم جزءًا من ذاتنا وثقافتنا، يقول غسان السيد: "منذ أن بدأ وعينا المعرفي يتشكل، وجدنا أمامنا روائع الأدب العالمي مترجمة إلى العربية، بدءا من شكسبير ودانتي، مرورا بآداب القرون الوسطى الأوروبية، وانتهاء بترجمات روائع الأدب الروسي والأدب الفرنسي، والأدبين الإنجليزي والأمريكي، لهذا لا نبالغ إن قلنا أن الترجمة شكلت بصورة مباشرة أو غير مباشرة جزءا من شخصيتنا، وجزءا من ثقافتنا، إلى حد أنه لا يمكن تخيل الثقافة الحديثة دون هذا الوسيط المثمر والذي نسميه: الترجمة".
 
فأثر الأدب المترجم يبدأ بالتجلي في الأدب المستقبل، بعد استيعابه لروائع ما أنتجته الآداب الأخرى، وأفضل ما أبدعته أقلام أدبائها، إذ إن ترجمة الأعمال المؤثرة في الذاكرة البشرية هي حافز تجديد لشخصيتنا الأدبية والثقافية، وإثراء للأدب، هذا الإثراء الذي يتحقق لأدب اللغة المصدر ولأدب اللغة الهدف، فللأول لأن ترجمته إلى لغات أخرى، هو حياة لهذه النصوص المترجمة واستمرار لها، يقول عبد السلام بنعبد العالي: "إن الترجمة هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة... ". وللثاني الذي يستلهم مما استوعبه من الأدب المترجم، ويظهر أثره في مرحلة التأليف والإبداع!
 
حروف عربية

ليست هناك تعليقات: