الجمعة، 2 ديسمبر 2011

أدب الخيال العلمي


أدب الخيال العلمي عربيًا
بين الكاتب والناقد

لا نبالغ إن قلنا إن أدب الخيال العلمي هو أدبُ المستقبل، فهو أدبُ الخيال الرحب الذي فجّرَ ـ منذ نشأته ـ إبداعات شتى ساهمت في رقي المعارف العلمية حين ولدَّ أفكارًا لمخترعات نقشتها أحرف كاتب مبدع، ويلقى هذا النوع من الأدب رواجًا في العالم الغربي حيث تصل أهميته لدرجة إقراره في المناهج التربوية، بل لدرجة أن يكون جزءًا من إستراتيجية شاملة يخصص لكُتَّابها على سبيل المثال في أميركا مقعدان بين مقاعد خبراء الإستراتيجية المستقبلية!
 وبفضل بعض الكتّاب العرب المثقفين ولجَ هذا النمط من الأدب إلى صفحات آدابنا مواجهًا صعوبات وعراقيل كثيرة تحول دون ارتقائه وتقدمه، ولعلّ أبرز هذه الإشكالات هي: عدم إدراك الفرق بين الخيال العلمي الذي يعتمد على العلم،  والخيال الأدبي باعتباره خيالاً أدبيًا؛ لاختلاط هذه المفاهيم ـ على الأقل ـ في ذهن القارئ العربي، فالخيال العلمي يختلف عن الخيال الأدبي بجنوحه نحو الحديث عن المستقبل ضمن حدود المنطق العلمي، وقد يصف الماضي وصفًا بحثيًا منطقيًا، أما الخيال الأدبي فليس له حدود، منذ أن تعرف الإنسان على بوادر العلم والخيال وصولاً به نحو الابتكار والاختراع، ولولا الخيال لما تحقق التطور.
وعندما نتحدث عن هذا الأدب في الوطن العربي نجد أنفسنا نتحدث عن غربته بين الكتاب والقرَّاء والنقاد، فمع ما قدمه بعض الكُّتاب العرب في هذا المجال منذ السبعينات من القرن الماضي، ومع ما يلاقيه من قبول بين طبقات القراء، نجدُ أن النقاد ما زالوا ينظرون إليه على أنه أدبٌ من الدرجة الثانية، ولا يهتمون به اهتمامهم بأنواع الأدب الأخرى. ويتضح ذلك جليًا من خلال قلة الكتب والدراسات الأدبية التي تناولت هذا الأدب في الوطن العربي حتى الآن!  في حين يحاول رواده بجهدٍ الصمود في الساحة الأدبية، مؤكدين أنَّ ما يكتبونه إنما يعكس الواقع العربي برؤية مستقبلية، وأنه لا انفصام بين أدبهم وواقعهم كأي نوع من الفنون الأدبية الأخرى التي تعبر عن الذات العربية.
والحديث عن إشكالية النقد لهذا الأدب عربيًا يفتح أمامنا أفاقًا  لقضايا متنوعة هي برأيي تدور حول مدى ملامسة هذا النمط من الأدب للروح العربية وتمثيله لها، في ظل وجود ثغرةٍ واسعةٍ في الفكر العربي تتمثل في عدم قدرته على التوفيق بين توظيف التطور العلمي الآتي من الآخر في الكتابة الأدبية العربية، وبين إمكانية إنتاج أدب خيال علمي عربي ذي خصوصية وتفرد مثلما يحدث في باقي المجالات.
حول هذا الأمر يبدي الدكتور نبيل فاروق ـ صاحب روايات ملف المستقبل التي تدور حول فريق من المخابرات المصرية العلمية ـ رأيه قائلا: " لا أعتقد أن المشكلة تكمن في كوننا منتجين أو مستهلكين للعلوم، المهم هو مدى استيعابنا للمعلومة العلمية والقدرة على توظيفها؛ لإنتاج أدب متميز. فالعلم تراكمي، ولا توجد دولة في العالم تستطيع أن تدعي احتكارها للعلم. العلم عالمي كالموسيقى مثلا، والمهم أن أستوعب الحقيقة العلمية وانطلق منها وأبني عليها"
 وعليه نستطيع القول أن الخصوصية هنا تأتي في الأحداث والصراع داخل العمل الأدبي أما الإطار العلمي فلا يمكن أن يحمل خصوصية عربية، وعلى النقَّاد ـ كما يرى الكتّاب ـ إدراك هذا الأمر وتجديد نظرتهم إلى ما يكتبُ في الخيال العلمي.
 بل إن هذا ما يقرُّ به بعض نقاد أدب الخيال العلمي من الجانب الآخر، ويؤكد على ذلك نهاد الشريف عميد كتاب الخيال العلمي العرب  وصاحب رواية قاهر الزمن في قوله: "هناك عدد من النقاد الذين تابعوا الكتابات العربية في هذا المجال، وأكدوا أن من يقرأ كتاباتي يشعر بتجديد حقيقي في أدب الخيال العلمي، ويحس بوجود لمسات عربية حقيقية تمثل إضافات له».
ومثل هذا القول يشهد للكاتب العربي بقدرته على تجاوز عثرة التقهقر العلمي ومواكبته للتطورات العلمية المستجدة والتمكن من توظيفها في إثراء الأدب العربي.
وهذه النقطة تدفعنا للحديث في منحى آخر مرتبط بسابقه وممهد للاحقه ضمن نظرة النقاد لأدب الخيال العلمي، فقد تعرض بعض الكتاب لاتهامات بسرقة أفكار رواياتهم وقصصهم من العالم الأول في إنتاج هذا النمط من الأدب مثلما حدث مع دكتور نبيل فاروق، حيث اتهمه أحد النقاد ذات مرة بأنه سرق فكرة الفيلم الأمريكي «يوم الاستقلال»، وحقيقة الأمر أنه لو راجع التواريخ، لاكتشف أن الكاتب نشر قصته قبل الفيلم بسبع سنوات كاملة!
وهذه إشكالية أخرى، تتمثل في عدم الثقة في قدرة الفكر العربي على الإبداع والإتيان بالجديد في مختلف المجالات عامة وفي مجال أدب الخيال العلمي خاصة، وإن أتى هذا الرأي من ناقد دارسٍ لتاريخ الأدب العربي وواعٍ بمنجزات مبدعيه فكيف ينبغي أن ينظر أو يثق القارئ العادي في هذه النصوص، وهل يجب على القارئ أن يرفض هذه النصوص ويعرض عنها؛ لأن الناقد عازف عن الإطلاع عليها مما يشي بانحطاط مكانتها بين أنواع الأدب الأخرى!
ولماذا ينظر الناقد أو القارئ دائمًا ـ حتى في المجالات الأخرى ـ إلى أن الكاتب العربي غير قادر على إبداع الأفكار ومعالجة الواقع بصور أدبية مختلفة، رغم أن قراءة  واعية متريثة للأدب العربي القديم ، تثبتُ أن العرب قد اهتموا بهذا النمط من الأدب بما يعكس مفهومه الحالي وما قد يتضمنه من تجاوزات، فقد كان اهتمام العرب بهذا النوع نابعًا من اهتمامهم بالعلوم، فكتبوا عن (المدينة الفاضلة)، و(حي بن يقظان)، وهنالك خيال (مقامات الحريري)، و(كليلة ودمنة)، و (ألف ليلة وليلة) وغيرها.  وبعض هذه النتاجات نبعت من البحث حول فكرة علمية ما.
 ويؤكد هذه الحقيقة بعض الباحثين الأوروبيين مثلما يحدثنا نهاد الشريف بقوله: «قبل سنوات جمعني الناقد الصديق يوسف الشاروني بمستشرق ألماني كان يزور القاهرة. كان المستشرق مهتما بأدب الخيال العلمي، وفاجأني بأنه سبق أن أعد دراسة أثبت فيها أن العرب كانوا سبّاقين إلى أدب الخيال العلمي، ومنذ قرون طويلة».
 فبدل أن نطلق الأحكام عشوائيًا لماذا لا نتحدث عن التجديد في النظر إلى النص الأدبي في ظل التطور الذي يجتاح كل شيء حولنا تقريبًا؟ أي ألا ينبغي للنقَّاد التعامل مع هذا الأدب بخصوصية مغايرة لما يتعاملون به مع النصوص الأخرى؟
فعلى سبيل المثال لو أخذنا كتابات نبيل فاروق الموجهة للشباب في أغلبها والتي تتجاوز المئة رواية في مجال الخيال العلمي، وسلمنا بأن تناوله للحدث العلمي أدبيًا لا يقترب كثيرًا مما اعتدناه من منهج في الكتابات الأدبية المقبولة عربيًا، فلماذا يعزف النقَّاد عن كتابات أقرب إلى الأدب الراسخ الذي يتعاملون معه بصورة أكثر جدية، مثل كتابات نهاد الشريف، وطالب عمران، وصلاح معاطي، وعبد السلام الباقلي.. وغيرهم.
ولم لا يستطيع الناقد رؤية الأمر من زاوية المؤلف الذي قد يبرر منهجه كما فعل الدكتور نبيل مبينًا أن: "الأمر مرتبط بإيقاع العصر، أنا واكبت العصر في كتاباتي، لكن هناك كتابًا كبارًا يكتبون بإيقاع زمن آخر، هنا تحدث الفجوة. فليس مطلوبًا من هذا الجيل أن يقرأ كتابة تنتمي إلى عصر آخر، أقول هذا رغم أنني أستمتع بهذه الكتابات. نحن في زمن لا يميل فيه الجمهور إلى الإغراق في التفاصيل، وأنا فعلت هذا، لكن هناك من لا يفعلونه وأعتقد أنه نوع من العناد مع القارئ. فالكتاب الكبار يرفضون الاعتراف بذلك رغم أننا في مرحلة انتقالية، تحتاج إلى نظرة مغايرة».
بهذا يبقى مستقبل أدب الخيال العلمي في الوطن العربي مجهولاً في ظل عزوف النقاد عن النظر إليه؛ لأسباب تتناقض مع رؤية الكاتب لأدبه ونتاجه الفكري، رغم الحاجة الشديدة لمتابعة النقَّاد لهذا النوع من الأدب من أجل تقويم تجربته والارتقاء بها، من خلال النظر في روايات الكتّاب العرب الذين يصرون على أن هذا الواقع المحيط بكتاباتهم يعود سببه للنقَّاد على رأي د. طالب عمران الذي يقول: "حتى الآن لا نجد نقادًا يهتمون بهذا النوع من الأدب، ونعتقد أن عدم الاهتمام هذا يعود لسبب قصور النقاد أنفسهم الذين لم يستوعبوا تقنيات العصر بعد، ومن بينها التقنيات التي لها علاقة بالخيال العلمي"
وأظن أن هذه أكبر إشكالية قد يواجهها أي نوع من الأدب، وهي عدم قدرة الناقد على مجاراة العصر الذي كتب فيه العمل، وجهله بالتفاصيل والتطورات التي يستند إليها العمل مثلما يحدث لأدب الخيال العلمي في الوطن العربي.

ليست هناك تعليقات: