الدب القطبي والإوزَّات الثلاث
في اجتماع "مائدة الأصدقاء" كما يسميها سكان قريةالخريف، لم يدخر الدب القطبي جهدًا، وهو يلقي خطابه المعتاد، في رمي الإوزات الثلاث بنظرات وعبارات مبطنة، جعلت المتحلقين من وجهاء القرية يدركون أن شرخًا ما جعله يشرع بشن معركة شرسة ضد الإوزات اللاتي استطاعت آذانهن التقاط همسات وضحكات مكتومة ممزوجة بشماتة منتظرِة لمثل هذه اللحظة الغاشمة، لاسيما من أولئك المثقلين بمقت الإوزة البيضاء التي حظيت لسنوات بمقربة من الدب القطبي، المتقلد زمام قيادة "مائدة الأصدقاء" نحو العيش الهنيء والرغيد.
بعد أن انفض الاجتماع، واجهت إحدى الإوزات مشكلة مع فئران الحقل الذين جعلوا يصرون على وضع لوحاتهم الرديئة في واجهة مركز القرية الذي يقع تحت مسؤليتها، فقصدت الدب القطبي لإخطاره بأن ذلك سيضر بجمال بقية اللوحات التي رسمتها أنامل أكفأ مبدعي القرية، لكن الدب القطبي رد بفظاظة آمرًا إياها بترك الفئران تفعل ما تشاء، ولم يكتفِ بذلك بل أمر الفئران أن تزيل جميع اللوحات الجميلة من أماكنها! ولولا أن تداركت الإوزة ذلك بحنكتها لغدت القرية ترى الجمال بعيون فئران مدبدبة!
لم تفهم الإوزة الصغيرة سر هجمة الدب القطبي، في البدء لم تكترث لجفاوته.. كانت دائما بعيدة عن اهتماماته، بل إنه، رغم مواهبها المتعددة، لم يلحقها بـ "مائدة الأصدقاء" إلا قبل مدة وجيزة، وكان كثيرا ما يمر بقربها ويترفع عن إلقاء التحية عليها، بدورها كانت تتسامى عنه وتجول في القرية بعيدًا عن طريقه.. لكن صداقتها للإوزات الأخريات لم ترضه، بل أن قربها من الإوزة البيضاء كان يثير الغيرة في جوفه ويدفعه للجنون!
في الأيام اللاحقة كان الدب القطبي كلما رأى إحدى الإوزات تهجم عليها وكاد يفتك بها بمخالبة، وكانت الإوزات تفلت بمناورة بارعة، وتمضي مع بعضها تشرب الشاي وتنجز العمل، حاول الدب القطبي تحريض سكان القرية على مقاطعة الإوزات، وكاد ينجح، غير أن أصدقاء الإوزات كانوا يقبلون عليهن بالحديث والود وتقديم المساعدة، بكل السبل التي راودته حاول الدب القطبي تضيق الخناق على الإوزات لاسيما الإوزة البيضاء التي عرفت باللطف والطيبة بين سكان القرية والقرى المجاورة فكان يكيل إليها التهمة بعد الأخرى.
كانت الأوزات الثلاث مختلفات عن أصدقاء المائدة، الذين يحبون قضاء أوقات سعيدة في تذوق الأطباق وتناول الحديث، يحاولن دومًا تجاوز الحدود والقيود ويتطلعن للانطلاق في هذا العالم، لكن ذلك لم يكن يرق للدب القطبي، كان صعبًا عليه الاعتراف بتفوق إوزة، فكان يحاول منع الإوزات من أكثر أمر يرغبن فيه..
في الواقع كان الدب القطبي غير محبوب بين سكان القرية، وكان كثير من أصدقاء المائدة يكيدون له ويتطلعون للتخلص منه.. كان مرفوضًا من الجميع، لكنه كان موجعًا من رفض الإوزات له لاسيما الإوزة البيضاء التي حاول أن يكون لطيفا معها كثيرًا ويكسبها مرارًا.
كانت الإوزة الصغيرة تشعر بذلك، ذات مرة فكرت أنه من العدل أن يجرب شعور الرفض.. لقد جعلها تختبره كثيرًا مذ فتحت عينها على قرية الخريف، ثم فكرت أنه ليس دبًا سيئًا لقد كان يتصرف على نحو جيد أحيانًا، ثم نفضت الفكرة من رأسها تمامًا.. الطيبة ليست من خصال الدببة عمومًا، الشر يليق بهم أكثر! وتذكرت كثيرًا مما جناه على رفاقها في القرية، طرد الأرنب من بيته وجعله يلجأ إلى عراء، أجبر الغزالة على ترك ورشة الرسم والعمل في متجر الورق.. سلط الثعلب يثير الذعر وينشر الدسائس ويطارد الإوزات بمساعدة القنافذ.
كان فظا جدًّا معها ومع رفيقتيها رغم نشاطهن الملحوظ والمشهود.. وكان يتميّز من الغيظ وهو يرى الإوزات تروح وتغدو دون أن يلتفتن إليه، حار ماذا يفعل وخطط ودبر.. في الواقع كان قد بدأ يفقد مودة جميع أهالي قرية الخريف، لكنه لم يكن ليكترث لذلك.. كان مشغولًا بمعركته الجديدة وخطوته القادمة.
كانت الإوزات حين يلتقين يتهامسن متعجبات من أمره هذا، تارة يعتقدن أنه طيب وتارة أخرى يتيقن إنه خلق من شر مفرط. تحار الإوزات كيف يغفو ويصحو مؤذيًا غزالة أو حمامة أو مطاردًا إوزة برئية وجدها في طريقه وقرر التهامها أو نتف ريشها.. أدركت الإوزتان أن لا ذنب لهما غير مصاحبة الإزوزة البيضاء.. هل يظن الدب القطبي أنهما يحرضانها ضده؟ كم هي فكرة مبتذلة!.. كان يبحث عن عذر لجوره.. لقد بدا وكأنه أقسم أن ينفق حياته في القضاء على الجميع..
وذات يوم وهو مشغول بتدابيره، ضد الإوزات الثلاث، لم ينتبه أنه يمشي حذاء البركة المحذورة، وفجأة اختل توازنه وسقط مرتطمًا بالمياه، حاول الصراخ والاستغاثة، لكن الثعلب والقنفذين الذين منحهم ما لم يمنحه لغيرهم طوال عمره، تشاغلوا عنه بالحديث وتناول القهوة.. أطلت الإوزة الصغيرة وفكرت بإنقاذه لكنه كان ضخمًا جدًّا لن تتمكن من جذبه، كما أنه لم يسعَ يومًا لتطوير مهاراتها للتعامل مع مثل هذه الأحداث والمواقف!
كان يغرق ويغرق.. وفجأة بدأت المياه بالتحول إلى اللون الأحمر، يبدو أن أسماك البركة المفترسة عثرت على وجبة دسمة.. ارتفعت صرخاته.. تشاغل الجميع عنه لاسيما أولئك الذين فضلهم كثيرا وأغدقهم بمكرماته.. انسحبت الإوزة الصغيرة بدورها، رأته يتمزق بألم مهين لكبريائه المعتاد.. لكنها لم تملك أن تصنع له شيئا! حثت خطاها لكن لم تلبث أن عادت، ألقت عليه بحبل وجرته جرًّا بكل ما أوتيت من قوة.. كادت تختنق، غير أنها استطاعت أن تخرجه أخيرا من قبضة الأسماك.. كان قد فقد يدًا ورجلا وعينا أيضًا!
تركته خارج البركة ومضت، كان سكان القرية بعد نجاته يتدافعون لمعالجته، ويتصايحون من حوله.. يبدو أنه سيعيش قليلا.
ما زالت الإوزات تصاحب بعضها، أحيانا يتمتمن بتحية خافتة حين يرين الدب القطبي الأعور مارًا في الجوار!