الخميس، 31 مايو 2012

سحر القصص الشعبي.. لحظة من الذاكرة

سحر القصص الشعبي.. لحظة من الذاكرة..


يسعد القمر إذا ما رآنا نلتف حول نوره وقد أظلمت دارنا لانقطاع أضوائها، يدرك في أعماقه إنه مثلنا تماما سيستمع لحكاية مفعمة بسحر الماضي وعبق التراث التليد، حكاية لا تفقد متعتها مهما تكرر سردها ونقلها نسيم الليل عبر الطرقات والمساحات..
أمي منذ طفولتي تقص على مسامعي  قصص تناقلتها أمها عن جدتها وجاراتها نساء الحارة القديمة، حكايات عن خرافية النسج، عبقرية المعنى، حلوة السرد، عجائبية الأحداث والعبر.. تحكي لي عن سر الجمل حامي شجرة الرمان التي تثمر ذهبا، وعن الفتاة المعذبة من زوجة أبيها التي ستتزوج ثعبانا يسعدها في حياتها، تحكي لي عن الطفلة ابنة السلطان التي إن بكت أمطرت ذهبا وإن ضحكت انهمرت فضة، وعن الأخوات الثلاث الآتي ظلمن أختهن الصغيرة فكانت أسعدهن حياة بزواجها من ابن سلطان تلك البلاد، وعن الفتاة التي تنكرت بإهاب الكلب هاربة من مصير تكره لآخر انتهى بفرحة دائمة..
لم تتجاوز حكايات أمي الست أو السبع، ترددها علينا دائما ونطالبها في أي فرصة سانحة بتكرارها وإعادتها، فتعيدها بذات الأحداث المعروفة وبألفاظ تتباين أحيانا كثيرة، مما يكشف متعة الحكي الشفاهي، ففي كل مرة تسمع الحكاية تبدو لك جديدة في تفاصيلها لجدة الألفاظ المستعملة في سردها تبعا لحالة السارد وجوه النفسي وما تؤثر به البيئة الآنية عليه..
تأخذنا خيالات أبطال قصصنا لأزمان أخرى، وتكشف لنا حقائق كامنة في أعماق النفس البشرية حاول أجدادنا عرضها بما تأتى لهم من خيال وخبرة لونوا بها كلماتهم  وأفكارهم ومشاعرهم، وتناقلوها في جلساتهم ومسامراتهم، تسلية، ومنفعة، وتأصيلا لحياة هم عاينوا تفاصيلها وعاشوا لحظاتها.
تلك الحكايات القصيرة المعدودة، جعلتني أدرك عمق التراث الشعبي الذي طواه ماضينا وتباطئنا عن جمعه ودراسته رغم غزارته وثرائه، ففي كل ناحية من بلادنا اجتمع قوم وألفوا وحكوا وسردوا قصصا متنوعة أحداثها، متباينة معانيها، لكنما متفقة عبرها الناتجة من خبرة تنعكس حكمتها في فكر الجماعة والشعوب مهما تباعدت، وجهلت مقولة بعضها بعض؛ ذلك لأن الحياة هي الحياة، تملي على كل فكر أينما كان حقيقة وجودها ومنتهى غايتها وجوهرها.
أعني بذلك أنه مهما تباينت هذه الحكايات من حارة إلى حارة، وبلد إلى بلد، وقبيلة إلى أخرى، وشعب إلى شعب، فإننا عندما ندرس فحواها سنجد الحكم والعبر نفسها تقريبا، والظلم نفسه، والعدل نفسه، بل والنهاية المفرحة المنصفة نفسها تقريبا، لأنها تمثل أماني البشر، التي جعلتهم يؤلفون خيالا منصفا يتأملون حصوله أمامهم في الدنيا المتقلبة مصائبها وحوداثها عليهم.
تراث ثري، وحكايات تسرد لنا نواح نفسية واجتماعية في قلب الإنسان العماني، تحكي مرارة الفقر مقابل ترف الغنى وجوره، تحكي حب الجمال جمال الروح والنفور عن قبح النفس أمام جمال المحيا، تحكي عن الرزق الذي سيئول لصاحبه وإن طال الزمن ما دام مؤمنا بالله تعالى. عن معاناة الفتاة في بيتها أو بيت زوجها وحُلمها الدافئ ببيت أميري المعشر، طيب الأصل. تحكي عن قسوة الإنسان حتى على أخيه، وأيضا عن رحمة الإنسان ورفقه ببنيه، وتضحيته من أجل مبادئه، وشهامته حتى أمام أعدائه. هذه القصص تعلمنا كيف يربى الإنسان ليغدو رجلا صالحا، أو وغدا طاغية.
كيف نشأت؟ لا ندري، من ألفها؟ لا ندري.. من سردها؟ أيضا لا ندري! ما نعرفه أنها بين أيدينا، وأن لها جوانب اجتماعية ونفسية وأدبية ولغوية جديرة بالدراسة! لعلها نشأت هروبا من واقع أو انعكاسا لواقع، لعل عجائبيتها نتيجة عبقرية نادرة وخيال جامح.. لعلها ولعلها.. وهي كلمة كفيلة بإثارة الخيال وحب اكتشاف كنهها وتأثيرها وأهميتها في أفكارنا وسلوكياتنا وحياتنا اليوم..
كم نشعر بالحنين إليها؟ كم فتحت عقلي للمقارنة بينها وبين ما تلتقطه عيني من قصص ورسوم جاءت عبر التلفاز من شعوب أخرى، تفاجئونا بتشابه تفاصيل الحكايات أحيانا لدرجة كبيرة فضلا عن عبرتها، مثلها مثل حكاية بنت السماك التي أطلق عليها " حكاية سندرلا العمانية" وهو الأمر الذي لا أتفق معه قط، فالشهرة ليست حكما منصفا ننسب إليه وجه الشبه بين تراث الشعوب، فلكل خصوصية تستحق الاستقلال بدراستها، حتى لو درسناها دراسة مقارنة، فلماذا ننسب حكاوينا لمجرد التشابه الذي يبدو طبيعيا كما ذكرت في ذهن الجماعة ـ لماذا ننسبه للأشهر بغض النظر عن الاختلاف وعن زمن الروي وظروفه!
ذات مرة وقعت بين يدي حكايات من ظفار نشرت في كتاب وكانت فرصة للمقارنة بين ما سمعته في الشمال المختلف ثقافة لا ننكرها عن الجنوب المميز بتراثياته وثقافته وأهله الطيبين، ولم يخفَ التشابه والتباين أيضا كوضع طبيعي في القصص المروية..
من أي فكر ساحر جاءت؟، وبأي عبر لمّاحة عن نفس الإنسان نبأت وأخبرت؟ ومتى تقر أعيننا بجمع هذا التراث الشعبي الذي ينعكس في كتابات أدبائنا الحاليين أحيانا كثيرة، حتى نقرأه بتمعن أكثر وندرس خصاله، بل ونعيد إحياءه ورسمه وإخراجه كهوية  لا يستغنى عنها في أدبنا العماني؟

ليست هناك تعليقات: