سبق أن عرضت الكتاب، وهذا مقالكتبته حول رحلة فيتنام..
تلقي الآخر في عين وجناح: فيتنام نموذجًا
تعدُّ رحلة عين وجناح لكاتبها محمد الحارثي من أحدث الرحلات العمانية، وأكثرها إمتاعًا وتشويقًا، اختار فيها كاتبها أميز ما صادفه من أمور وأحداث عبر رحلاته المتعددة، وسطرها لنا بأسلوب جمع بين الطرافة والجمال، نتبين من خلاله فلسفة كاتبه، بما يعكسه لنا من مشاهد متفردة عن واقع الشعوب التي زارها وتلقيه لها، آخذًا في الحسبان رصد نظرة تلك الشعوب للرحالة العماني وتلقيها له أيضًا!
ولعلّ أجمل رحلات هذا الكتاب وأثراها رحلته إلى فيتنام ( بلد النجمة الحمراء وبدلة الكاكي) التي زار فيها كلًا من: سايغون، ونياترانغ، ودالات. و كان الداعي لهذه الرحلة حبُّ السياحة و المغامرة والاستكشاف للبلد القصية مقصدًا، خاصة مع وجود عرض سياحي مناسب. وهو هدف تشترك فيه جميع رحلات (عين وجناح) عدا الرحلة الأولى إلى الجزر العذراء إذ كان هدفها الأساس طلب العلم.
المثير في هذه الرحلة - وهو ما قد يميزها عن باقي الرحلات - أن تلقي الآخر للرحالة العماني يبرز جليًا بقدر تلقيه هو للآخر المغاير له بثقافته وعاداته وحضارته! ويأتي هذا على مستويات، ومن شرائح فيتنامية وغير فيتنامية متباينة، ومن طرف واحد مقابل يتمثل في الرحالة العماني .
ونستطيع أن نرصد بعض جوانب تلقي الآخر للحارثي في العديد من المواقف:
فاحترام الديانات ومعتقداتها كان حاضرًا في موقف السائحة الفرنسية التي لقِيَها الحارثي في حديقة جامع سايغون، حين عرض عليها الدخول معه للجامع، فقالت: " أنا كافرة ولا يحق لي الدخول، أدخل أنت وسأنتظرك هنا.." ويعلق الحارثي على هذا الموقف بقوله " احترمت طقسي الخاص ولم تدخل... حتى لا تجرح شعوري".
كما يتمثل في موقف المرأة المسنة في المعبد بسايغون أيضًا، عندما أشارت بتسامح بوذي رؤوم للحارثي بعدم وجود داعٍ " لتمثيل الصلاة " ما دام نصرانيًا، دون أن تعرف أنه مسلم!. ويحدِّث الحارثي نفسه في لحظة تذّكر بأن هذا السلوك كان في منتهى الرقة والتهذيب!
وهنالك ذلك التلقي المشوب بالدهشة والاستغراب الذي تمثل في موقف أطفال الحي الفقير حين تحلقوا حول الحارثي وهو يدوّن أحوال تلك " البلاد الغريبة "، وقد وصف الحارثي هذا التحلق بقوله: "مندهشين وضاحكين من هذا الغريب، ومن أفعى اللغة العربية التي كانت تتلوى على الورقة من اليمين إلى اليسار"، فاستخدامه لكلمة " الغريب " في وصف نفسه نابع من نظرة الأطفال الفيتناميين له باعتباره شخصًا مختلفًا عما اعتادوا عليه.
ولعل هذا الاختلاف الذي لمسوه كان داعيًا للاستقبال الحافل والاحتفاء الذي تمثل في استقبال عائلة ( نغويين ) بل الحي الفقير بأكمله للحارثي، حيث نظروا إليه على أنه ذلك " المليونير" الذي يستحق التهافت عليه، فجيء بالطعام من كل بيت وعزف أعمى الحي على آلته... بل أن " أثرياء " الحي جاؤوا محملين بزجاجات " الرّم " الفيتنامي والبيرة المحلية!
وفي المقابل كان تلقي الحارثي لهم يحمل شيئًا من الاستغراب والقبول والتقدير لحال دليله (نغويين) الذي كان سعيدًا بإحضاره لهذا المليونير الذي يقدم له دولارًا ونصف يوميًا!..
يقول: " استسلمت، على غير عادتي للاحتفال.."، ".. لقد شعرَ بأنه حقق شيئًا كبيرًا بزيارتي تلك للحي. وشعرتُ بدوري أنني بذلك الحضور الرمزي حققت له ما يصبو إليه من انتظاراته الطويلة في بوليفارات سايغون. وكان ذلك أقصى ما يريد وأقصى ما أريد! " . وهنا يمكن أن نستشعر قمة التفاعل مع الآخر من خلال ما تحمله العبارة الأخيرة من سمو الفكر والعاطفة.
ويغلب على الحارثي تقبله الرحب والسمح للآخر أيًا كان وتقبل عاداته وتقاليده ومشاركته له أحيانًا، فهو كثيرًا ما يصاحب ويصادق شخصًا من البلد التي يزورها كمصاحبته ل(نغويين) في سايغون، والطالبة التي تدرس الانجليزية في دالات..
وربما نستطيع أن نتبين تقبل الحارثي وتلقيه للآخر بصورة جلية من خلال مواقف عدة:
فالدهشة الإعجاب والاحترام برزت بجلاء عند لقاء الحارثي بصاحب المطعم في دالات، الرجل المثقف المناؤي للسلطة، الذي بلغت ثقته واحترامه للحارثي ( العربي القادم من جزيرة العرب الذي وصل إلى أعالي دالات) لدرجة دعوته لزيارة حديقته العجيبة ( حديقة الأحجار والأفكار المعلقة) التي لا يدخلها إلا قلة !
وكان حقًا أن يصفه الحارثي بعد اطلاعه على فكره وتجربته بقوله : " راقني ذلك من الرجل الذي تكشّف عن تجربة رصينة. كما أحببت فيه عدم التذمر من وضعه..."
كذلك يتمثل في دهشة الحارثي من الراهب في نياترانغ الذي كان الشخص الوحيد الذي عرف عُمان تاريخًا وموقعًا وحضارة، وأحداثًا وأحوالًا: " بل أكاد أقول أنه ضليعٌ في حرب الجبل الأخضر وحرب ظفار. أدهشني ذلك منه فسألته عن السرّ. فقال: أنا هنا متفرغ للتعبد، لكنني أتابع في أوقات فراغي أحوال الدنيا عبر الراديو، صديقي الوحيد في هذا العالم!".
كما لا يفوت الحارثي أن يعبر عن استيائه أحيانًا بلغته الطريفة، فعن حفلة عيد الميلاد التي حضرها في مطعم (ناس الغيوان) بنياترانغ، يقول: ".. انضم إلينا ألماني متعجرف وزوجته الفرنسية التي لم أرَ سببا وجيهًا لزواجها من ذلك القبيح جسدًا وروحًا سوى ثرائه".
ولم يقف تلقي الآخر في رحلة فيتنام عند هذه الحدود بل تجاوزه لجوانب أخرى ومستوى آخر، تمثل في المرجعية التي استند إليها الحارثي عند مقارنة ما ترصده عينه ببلاده، أو بالمواطن التي استقر فيها لمدة طويلة، أو التي زارها مرارًا:
يتجلى ذلك عندما حاول الحارثي إيجاد مواطن شبه بين سايغون والرباط، المتمثل في التشابه العمراني: ".. رغم خطوات الغزاة السابقين واللاحقين حافظت سايغون على المباني وفق نسق معماري جميل، أقحمه الفرنسيون على مستعمراتهم (وهذا ما لم يفعله الإنكليز للأسف في مدينتين فقيرتين كمسقط وعدن) لذا وجدت نفسي أقيم رابطة قربى بين سايغون والرباط ؛ ربما لأني أقمت طويلا في الأخير" .
و الجدير بالذكر تكرر مثل هذه المقارنة بمدن المغرب العربي في رحلة الأندلس: " أحببت قرطبة كثيرًا.. ربما لأنها مدينة صغيرة.. تذكر بمدينتي ( أصيلة) في المغرب، ومدينة ( سيدي بورسعيد) في تونس".
في الرحلة ذاتها يقول: " .. أخذني إلى حي شعبي وتناولنا وجبة دسمة ذكرتني بالمأكولات الشعبية التي تقدم في ساحة الفنا بمراكش..".
في زنجبار يصف إحدى المدن القديمة فيقول " لا تعرف إن كنت في مسقط، دمشق، كلكتا، أو مراكش، فالمدينة من هذه وتلك".
وعودة إلى فيتنام لرصد مظاهر هذه المقارنة المرجعية فنجدها فيما يتعلق بالأسماء: " اصطحبني ( نغويين) وهو الاسم الشبيه بمحمد لدينا لكثرة شيوعه هناك..".
وكذلك في الجانب المتعلق بالطبيعة في رحلته من نياترانغ إلى دالات: " لم أرَ سوى حقول خضراء من الأرز مغمورة بالمياه التي تكاد ـ كما هو الرمل في الجزيرة العربية ـ تلتهم خط الإسفلت الرفيع".
وهنالك لمحات من المقارنة التاريخية تتمثل عندما قارن الحارثي بين الأهوال التي ذاقها الفتناميون على يد الأمريكان وكيف تفننت هوليود بعرضها فبنبرة ساخرة مريرة يقول: " لكننا نحن العرب ـ بأريحية لا نجارى عليها ـ لم نعطهم تلك الفرصة أثناء ما عرف وسمي بحرب الخليج الثانية وآثرنا تصفيه الحساب " وديًا " بدم ونفط وكرامة مهدورة أمام شعوب العالم" .
هذه الملامح التي ذكرناها تمثل جزءًا يسيرًا من نظرة الحارثي لفيتنام، تلك النظرة التي تحمل مزيجًا من الإعجاب والدهشة والمرارة والألفة، والتي تنبض بها حروف الرحلة بما تتميز به من براعة في نقل المشاهد بل في التقاط ما يثير القارئ ويسترعي انتباهه منها، وربما نستطيع القول أن معاني هذه النظرة تُختزل حين جلس الحارثي في مقهى بسايغون وهو في حقيقته باحة بيت لعائلة فقيرة تبيع المرطبات، وقال : " أعجبني المكان لأنه يعبر بلغة صارخة عن حال تلك البلاد"، بكل ما تحمله العبارة من إيحاءات ودلالات تُثار في ذهن المتلقي عن بلاد الظل القمري!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق