" أنا خانني صدقي ودمرني وفائي!"
بيت للشاعر كريم العراقي منذ قرأته أول مرة دفعني للتفكير: هل فعلا يمكن أن يخون الصدق صاحبه؟ هل يمكن لوفائه أن يجرَّ عليه الويل؟
ورغم غرابة أو سذاجة السؤال كما قد يخطر بذهن بعضنا، فقد وجهته لمن وجهته وحصدت هذه الإجابات: قالت لي (ش): "عندما يكون الآخر خائنا لا ينفع معه الوفاء، أما الصدق فقد تبدو نتائجه وخيمة ولكن مهما طال الزمن فسينتصر الصدق"
وأجابتني (م): " ممكن إن لم يضع حدًا لوفائه" وعندما سألتها: كيف ذا؟ أضافت:" لكل شيء حد أو خط أحمر لا يمكن تجاوزه، كالشخص الطيب جدا يسمح للآخرين باستغلال طيبته لصالحهم، وكان عليه أن يعلم وقت الطيبة ووقت الشدة والحزم" وهي تريد كذلك الصدق والوفاء يجب أن نعرف لمن ومتى نوجهه ونكنه!!
بصراحة أجابت (ر):"نعم، يمكن للصدق أن يخون صاحبه إذا كان الصدق يؤثر سلبا على العلاقات المهنية والاجتماعية، ويقابله سوء الظن من الآخر!"
وبعكس ذلك أجابتني (خ):"أرى أن الصدق لا يمكن أن يخون صاحبه، والوفاء لا يدمره إلا بعد أن يكتشف أن الذين نذر لهم صدقه ووفاءه لا يقيمون لقيم النبل والإنسانية قيمة، أو من الذين ينخدعون ببريق المادة الزائف وفي هذه الحالة لن يخونه الصدق ولا الوفاء بقدر ما يكون هو من فرط فيهما...يذكرني هذا بقول الشاعر:
فما بالي أفي ويُخان عهدي* وما بالي أصاد ولا أصيدُ
وبحيرتها أجابتني (هـ)" لا أفهم كيف يخون الصدق صاحبه؟! وعلى كلٍّ هذا البيت ربما ينطبق على تجربة مرَّ بها الشاعر ولا يمكن تعميمها. ما أعرفه أن الصدق والوفاء خصلتان حميدتان حثَّ عليهما الإسلام، واتصف بهما نبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، وعلينا التمسك بهما والمحافظة عليهما، فإسلامنا لا يحثنا بإتباع إلا ما فيه خيرنا وصلاحنا"
لا أعقب على السابق، وأترك لكلٍّ رأيه.. أنا عندما قرأت البيت قبل ثلاث سنوات كتبت هذه القصة ( وقد حازت على المركز الأول بالمسابقة!):
لكل رأيه أنا عندما قرأت البيت كتبت هذه القصة وقد فازت بالمركز الأول في إحدى المسابقات:
"هل خانني صِدْقِي..؟!"
جلس مستنداً على جدار المسجد،وبدا لمن يراه هادئ البال، إلا أن نفسه كانت تموج بالقلق والألم، اسند رأسه إلى الجدار متنهداً بعمق قبل أن يلتقط هاتفه الجوال ويضغط على أزراره الصغيرة، لينتظر ثوانٍ قبل أن يسمع صوت محدثه الذي حياهُ بصوت بعث بعض الراحة في نفسه، رغم أنه كان يظن أن أخاه لن يرد على اتصاله هذا..
قال له بخفوت خالطه شئ من الحياء: بدر أحتاج أن أكلمك..
- هاأنا ذا استمع إليك.. كيف حالك الآن؟
- بخير...
- صوتك حقاً لا يوحي بذلك..
اعتدل في جلسته وتسارعت نبضات قلبه وصمت للحظة قبل أن يتجرأ على تردده ويسأل بخفوت: ألا يزال والدي غاضباً؟
كان يتوقع من أخيه عبارة تواسيه إلا أنه تفاجأ به يرد بنفاذ صبر: لماذا لا تسأله بنفسك؟؟
سكت وقد صدمه الجواب إلا أن أخاه تدارك الأمر قائلاً: أنا آسف لم أقصد شيئاَ.. ولكن كان عليك بالفعل ألا تعود للجامعة قبل أن تصلح ما فعلت.. اتصل به وحادثه، لا تترك الأمور معلقة هكذا.. أنت لم تعد صغيراً..
مسح بيده على جبهته بارتباكٍ وتسلل الألم إلى صوته وهو يهمس: بدر..أنا لم أعد أجرؤ على محادثته بعدما حصل، أرجوك أحتاج لعونك.. قل له أني لم أكن أقصد وأ..
قاطعه أخوه هاتفاً: وهو يدرك ذلك.. ومما تخشى أن يردك خائبا؟!ً أعلمُ أنك تود مني أن أيسر سبيل محادثته، لكني لن أفعل، عليك أن تجد حلاً لذلك بنفسك.. عليك أن تعود للبيت مثلما خرجت منه.. أنت لن تقضي عمرك كله بالقرب من الجامعة!! أريد منك أن تبادر فقط وستجدني حينها بقربك..
وأنهى المحادثة..
أطرق برأسه محدقاً في لا شئ، لم يكن يتصور أنه في يوماً ما سيعيش منبوذاً من أسرته لا يستطيع الرجوع إليها متى شاء، بسبب خطأ لا يستطيع القول أنه لم يكن يتعمده كان يدرك ما يفعل، لكنه أبداً لم يرد أن تصل الأمور إلى هذا الحد... تنفس بعمق ناظراً إلى كتبه المكدسة بجانبه.. هو حقاً لا يستطيع المذاكرة وذهنه يأبى إلا أن يعيد علية كل لحظة ما قد حصل، والله وحده الذي يعلم كيف ستمر عليه امتحانات هذا الأسبوع!
حاول أن يمسك أحد كتبه، فجعل ينظر لذات الصفحة وذهنه مشتت ما بين أيام خلت وما بين طالبان أخذا يتجادلان في أسئلة امتحان إحدى المواد، غبطهم لأنهم انتهوا منها في حين أنه لا تفصله عنها غير سويعات قليلة وهو لا يقدر على استذكارها،؛ لذلك أثارت تلك النقاط التي يتحدثون عنها شيئاً بنفسه وفكره، وخيل له كأنه يسمعها لأول مرة! مما دفعه إلى أن يقلب صفحات كتابه ودفتره علّه يستعيد سطراً حواها.. ولكن ما الفائدة ستكون هنالك أسئلة أخرى غير هذه عليه أن يذاكر للإجابة عنها.. !!
غير أنه ظل شارداً حزين القلب... تكاد دمعة ترقرق في مقلتيه!!!
ـ ـ ـ ـ ـ
صباح يوم جديد..
ومؤلم..
يفيض بالقلق وسط قاعة الامتحان.. وفكر في نفسه أنه من المؤسف أن يتعثر في مادة هو يحبها ويحترم من يعلمه إياها, ترى هل ينتهي به المطاف إلى حذفها بعد هذا الامتحان؟
" الامتحان واضح وسهل وفي مقدور من استذكر جيداً أن يحله في وقت لا يتجاوز الساعة، لذا أتمنى أن أرى درجات كاملة.. بالتوفيق.."
نطق بها الدكتور وهو يوزع الأوراق منتشلاً إياه من شروده، ومضاعفاً موجات القلق في نفسه..
بدأ يحل أسئلة الامتحان مستعيناً بمخزون الذاكرة، قبل أن تصدمه الأسئلة الأخرى وتوقعهُ ما بين الإحجام والإقدام...
كيف حصل هذا؟!!
وأي مأزقٍ أوقع فيه نفسه هذه المرة؟؟!
ـ ـ ـ ـ ـ
خرج من قاعة الامتحان ممتقع الوجه، فسأله زميله متعجباً: ما بك؟ كيف كان الامتحان؟ لا تبدو..
وبتر عبارته حين أحس أنه لا يستمع إليه إلا أنه أجاب متنهدا على نحو فاجأ زميله الذي اعتاد تفوقه: أنا.. لا شئ والحمد لله على الامتحان..
ثم اندفع مغادراً وسط استغراب زملائه الذين لم يبلغهم إلا زفرة وهو يهمس" يا الله.."
حتى عندما حاول أحدهم أن يستشف ما به وانطلق خلفه، لم يستطع اللحاق به..
كان قد اختفى عن ناظرهم في لحظات..
أما هو فكان مؤنب الضمير.. لقد درس مع هذا الدكتور مقررين ولم يسبق أن تشابهت أسئلة الامتحانات.. فلماذا اليوم كانت نفس الأسئلة التي بلغت مسمعه من الطالبان في المسجد؟؟؟!!
لماذا؟!
لم يدرك ماذا يفعل.. لقد حلها ونفسه تنازعه.. لم يكن يوماً طالباً يميل للغش في الامتحانات حتى عندما كان في المدرسة، أنه يدرك كم هو بغيضٌ أن تسرق مجهود الآخرين وأنت تنام قرير العين.. معنى أن تخون شيئاً في نفسك يحضك على الأمانة.. كان يدرك معنى.."..... ليس منا"!!
وما الذي فعله اليوم؟ إنه يحس أنه غش أسئلة الامتحان حتى وإن لم يقصد، هل كان محتاجاً لأنه لم يستذكر جيداً؟
هو لم يكن يعلم...
هو لم يرضى عما فعل..
وكان عليه أن يتخذ قراراً ما... وأي قرار؟
ـ ـ ـ ـ ـ
خرج من استراحة الطلبة بعد ساعتين كاملتين متوجها نحو مكتب الدكتور بعد أن استعاد بعضاً من هدوءه.. كان عليه أن يختار..!!
واختار الصدق!
استقبله باسماً وهو يسأله: كيف كان الامتحان؟
بدا الارتباك عليه وهو يجيب بخفوت متحاشياً النظر مباشرة إليه: جئتُ أحدثك عنه..
استغرب الدكتور الأمر قليلاً وقد بدأ يحس أن طالبه هذا لا يبدو كعادته.. سأله: في ماذا ألم يكن الامتحان بسيطاً؟
رفع ناظريه ناحيته مجيباً: بلى.. ولكن ألم يكن نفس امتحان المجموعة الأخرى؟!
استوقف السؤال الدكتور وضيق عينيه محاولاً أن يستشف ما يود هذا الشاب الواقف أمامه الوصول إليه، في حين أنه عاجله والجاً صلب الموضوع بنبرة خافتة: لقد.. كنت بالأمس في المسجد عندما كان طالبان يتجادلان حول أسئلة الامتحان.. أنا لم أكن أعلم أنها ستكون ذات الأسئلة..
وهز كتفيه وهو يدرك صعوبة موقفه مستطرداً: وحللتها..
وكانت قسمات وجه الدكتور توحي بصدمة.. وغضب! ظهر جلياً في صوته وهو يهتف: بمعنى آخر أنك غششت أسئلة الامتحان..
حاول الدفاع عن نفسه: لكنني لم..
فقاطعه الدكتور قائلاً:ماذا؟؟ تود أن تقنعني بأنك لم تناقشهم فيها أيضاَ..
ردّ محاولاً حل المأزق الذي وقع فيه: دكتور لو قصدت لم آتي لأخبرك بما حصل..ثم أنت تعرفني من قبل و..
قال له ضاغطاً على حروف كلماته: لأني أعرفك لم أتوقع منك هذا.. اعتبر أنك لم تمتحن قط!!
صدمته تلك العبارة فلاذ بالصمت، وحتى عندما تدارك نفسه قليلاً وحاول أن يبين موقفه كان الدكتور يشير له بالخروج من مكتبه وهو يقول بعنف: من الرائع أن تخون ثقة الآخرين بك..!
ـ ـ ـ ـ ـ
سار غير مصدقٍ لما حصل ما بين أشجار الجامعة، كان صعباً عليه أن يستوعب الموقف بأسره.. أن يرى الامتياز بعيداً عنه وهو الذي لازمه في سنواته السابقة..وكان يفكر فيما يفكر أن كيف يستطيع كتم ذلك عن الآخرين!
لأول مرة يحس أن صدقه خانه وأوقع به.. ويا له من شعورٍ مريرٍ وقاهر..
رنَّ هاتفه الجوال على نحو مفاجئ، حتى أنه لم يدرك مصدر الرنين للحظات بسبب انشغال فكره.. ولم يكترث للنظر إلى شاشته الصغيرة ليعرف من يتصل به، لكنه ما إن سمع صوته، حتى خفق قلبه بشده..آخر شخص يتصوره..
حتى أنه استغرق مدة ليستطيع الاستجابة له بصوت متعثر غير مصدق: أبي؟؟!!
وبصوته الوقور أجاب: أمر مفاجئ صحيح؟!.. لقد اخبرني أخوك بما جرى من حديث بينكما.. قلقت عليك..
صمت ليستوعب الموقف، لطالما كان والدهم قريباً منهم بعد وفاة أمه، كان يكن له إعجابا خفياً بشخصه وخلقه وسعة اطلاعه.. لكن ما حصل....!
وبصعوبة استطاع أن يقول بصوتٍ ملؤه الحرج: أنا.. آسف..
وكأنما شعر بوالده يبتسم وهو يجيب: لا عليك.. قل لي كيف دراستك؟؟
حاره السؤال إلا أنه أجاب:دراستي.. بخير..
قالها وعض على شفتيه ألما، أحس أنه يكذب على والده بعدما حصل له،ألا تكفي الكذبة الأولى التي حالت بينهما.
لام نفسه وتمنى لو يستطيع البوح بما جرى لوالده كما تعوّد دائماً...
- " ما بك؟ لما يبدو صوتك متعباً؟"
- أنا.. لا شئ..
صمت والده للحظة قبل أن يقول: لا عليك استطيع أن أفهم.. سأتصل بك لاحقاً.. اتفقنا؟..
ولم يستطع الاعتراض... وما إن أنهى الاتصال حتى غرق من جديد في بحرٍ من الشرود القاسي.. أي شئ ذك الذي خسره في غضون أيام.. بل ساعات!
هل هي مجرد لحظات عابرة أم أنها ستحطم ما عاش به من سنين، كيف لم يجرؤ على الاعتذار لوالده وانتظر حتى بادره بنفسه، كيف تحطمت صورة الطالب المجتهد الصادق قبل لحظات وهو الذي عاش عبر إطارها منذ صغره، وكيف حدث أن خان الصدق مرة فخانه صدقه على نحو مرير!!!
فجأة قفز إلى مخيلته خاطر جعله يلتفت ناظراً تجاه كليته رغم عدم قدرته على رؤيتها من تلك المسافة، وهو يتساءل في قرار نفسه: ترى هل كان الدكتور يقصد ما يقول أم....
.......
تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق