الثلاثاء، 13 ديسمبر 2011

كن كنخيل أرضي


كن كنخيل أرضي!

ما التفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدتك تصاحبين نظراتي مثلما صاحبتِ أجدادي وأسلافي منذ قرون بعيدة، ترى ما الذي خلفتُّه تلك الصحبة الطويلة؟ وماذا كنت فيهم؟ وكيف بلغت تلك المكانة؟ بحثًا عن جوابٍ لأسئلتي رحتُ أفتش في صفحات كتبي لأقرأ تاريخك الحافل ومنزلتك العالية التي تجلت في أشعارهم ...  أنتِ كنت العطاءَ والوفاءَ في الذاكرة الشعرية العربية، كنت رمزَ التسامي والشموخ قبل أن تكوني الثمرَ الطيب و الظلَ الوارف الذي يقي من لهيب شمس الرمضاء.
وبعيدًا عما جاد به القريح من وصفكِ  وتعداد صفاتكِ وأسمائكِ ومراحل نموكِ وفوائدكِ الجمة، أحاول هنا أن أرصدَ شيئًا من لحظات التفاعل الوجداني معك أيتها العمة.. يا من تجاوزت مع الشاعر العربي حدود صمتك وثباتك، لتصبحي رفيقته في أصعب أوقاته، بل لتصبحي ذلك الصديق الذي يبث له همومه وآلامه  وهو يعاني من لظى الغربة وفراق الأحبة!
هنالك في الشام خاطبك أحمد الصافي  وقد وجدكِ تغربت عن ديارك وبعدتِ عنها برغمكِ مثله تمامًا، فقال:
لا أنت نامية ولا أنا نامـــــــي             يا نخلة غرست بأرضِ الشامِ
عشنا ولكن بانتظـــــار مماتنـا             كمعيشة المحكــوم بالإعــدامِ
لا فرق بين شبابنـــا ومشيبنـــا            فكلاهمـــا وهم من الأوهـــامِ
في الشام لم أسكن وربك لحظة           لو لم تقيدنـــي بهـا أسقامـــي
ربطوا بتربتها جذورك مثلمــا             ربط السقام بأرضها أقدامــي

ومرآك أيتها النخلة  في بلاد الغربة هو من فجر حنين  صقر قريش عبد الرحمن الداخل، وجعله يرى فيك أنيسًا لغربته في الأندلس لأنك مثله تمامًا وجدت في أرضٍ غير أرضك :
تبدت لنا وسط الرَّصافـــــة نخلةٌ               تناءت بأرضِ الغربِ عن بلدِ النخلِ
فقلتُ شبيهي في التغرِّبِ والنوى               وطول اكتئابي عن بنيّ وعـن أهلي
نشأتِ بأرضٍ أنت فيها غريبــــة               فمثلك في الإقصاء والمنتـــأى مثلي

ويتكرر هذا التأثر بك مع مسلم بن الوليد الذي ولي جُرجان في عهد المأمون، حين كنتِ هنالك  في المسجد، فحدثك وقد هزه الشوق، وأضنته الغربة :
ألا يا نخلةً بالسفح من أكنافِ جُرجانِ          ألا إنّي وإياك بجرجان غريبانِ

أجل جنى عليك أهلك فأبعدوك عن أرضك، أو أنَّ تعلقهم بك فاق حدود الوطن فحملوك أينما ذهبوا!
عند البردوني كنت صورة أخرى.. كنت صورة اليمني الغريب بما يحمله من أصالة المنشأ وعراقته:
عرفتـــه  يمنيًـــــا فــــــي  تلفتــــه            خوفٌ...   وعيناه تاريخٌ من الرمـدِ
من خضرةِ القات في عينيه أسئلــةٌ            صفرٌ تبوح    كعودٍ    نصفِ متَّقــدِ
رأيتُ    نخلَ  (المكلا)  في ملامحه
          شميت عنبَ (الحشا) في جيدة الغيدِ

هكذا  رآك العربي...أصالة وصمودًا وحنينًا، منكِ تعلم أسمى معاني الطيبة والصفاء فغرست فيه أجمل الأخلاق وغدوتِ رمزًا للتسامي والرفعة عن قبيح الصفات، بكِ دعا أخاه الإنسان أن يترفع عن الحقد، وأن يجازي بالسيئة حسنًا فقال:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًا     يُرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر

وليس ذلك بغريب  عليك لأنك حملت اسمًا لا ينبغي له غير التسامي والشموخ، فقد قيل أن النخلة مشتقة من انتقاء الشيء واختياره، والنخيلة هي النصيحة الخاصة، يقال "لا يقبل الله إلا نخائل القلوب" أي النيات الخالصة، ونَخَلَ الشيء : صفّاه واختاره..  هكذا سموتِ بنفس الشعراء فترنموا بهذه الصفة العظيمة فيك، فقال علي الشرقي :

يا رامي الشجر العالي  باكرته      
 هلا تعلمت أخلاقًا من الشجرِ
ترميه بالحجر القاسي  لترجمه ُ     
 وإنه  دائما يرميـــك بالثمـــرِ

عجيبة أنتِ في كل شيء! وحقَّ لإيليا أبو ماضي أن يَعشق شموخك أينما كنت وأينما حللتِ بحاضرة أو بادية، وقد عبر عن ذلك هاتفًا :
أحببتَ حتى الشوك في صحرائها      وعشقتُ حتى نخلها المتكبرا
اللابس الورق اليبيــس تنكسًـــــا      والمُشْمَخِر إلى السماء تجبرا
ابن الصحارى قد تحضر  وارتقى      يا حسنـــــهُ متبديًا متحضـرا

إلا إنني أرى أن أعمق برهان على مدى ارتباط العربي  بكِ يتجلى في لحظات الألم حين يكون ذلك العزيز المفقود مثلك يا نخلتي! فهذا نزار قباني رأى زوجته (بنت العراق) واحدة من نخلات العراق ولكنها أطولها، فقال في مرثيته لها:
بلقيس..كانت أجمل الملكات في تاريـــخ بابـــــلْ
بلقيس..كانت أطول النخلات في أرض العــــراق
كانت إذا تمشي ترافقها طواويس وتتبعها أيائلْ

أجل إلى هذا المدى.. بل تجاوزه أيتها العمة ليصل لحد رثائكِ عند فقده إياك!فهذا حفيد الشيخ عبدالله السالمي يرثي نخلة الزبد ويكتب فيها أبياتًا وجهها للشيخ سالم الحارثي، أذكر منها:
ابكي شبابك يا صريمة الزبدِ        ما كان عمرك في الحياة له مدد
قد كنتِ فينا بالرجاء جديرة           لكــن أمــــــر الله حقًــــا لا يرد
ففراق جذعك لا يزال فجيعة         عندي ودمع العين مني كالبـرد
يا سالم بحر العلوم مشاركًا          وأرجوك أحزاني متى الهم تحد
أنت المحب أبا حميد فأسعفن        فأبــــو زهير للزبيد قـــد فقـــد

سلبتي هواهم وكنت جزءًا عظيمًا من حياتهم.. أما اليوم يا عمتا  كل شيء عندنا سلبا.. وفاؤك، عطاؤك، صبرك، شموخك الذي علمتنا إياه، ولو عاد إلينا لكنا مثلك للغريب في غربته،وللمعدوم في وحدته، ولتسامت نفوسنا طموحًا وأخلاقا! وهذي دعوتي، فلنكن كنخيل أرضي!

ليست هناك تعليقات: