الجمعة، 2 ديسمبر 2011

مدينة يامن


بسم الله الرحمن الرحيم
"رسام مدينة يامن.."
تقع مدينة يامن قربَ نهرٍ صغير ٍجعل منها حديقةً غناءَ تجذبُ الزائرين من مختلفِ الأرجاء، وكان أميرها الشاب حريصًا على جمالها وبهجتها.. وقد استجاب أهلها لطموحاته فعنوا بجمال طبيعتها، ونظام مساكنها، ونظافة شوارعها.. فغدت مرتعًا للبهجة والسعادة..
وحدث ذات مرة أن استيقظ أهل يامن على أمر غريب جعل جموعًا منهم تتجمهر بقرب بيت أنيق لرجل عجوز طيب القلب، وتهامسوا في ما بينهم وعلت تمتماتهم وهو يحدقون بذهول في جدار البيت الأبيض!!.. حتى قال أحدهم للرجل العجوز محذرًا: لو علم الأمير بهذا فسيغضب.. عليك بتدارك الأمر وإزالة الأثر..
تبسم الرجل العجوز وقال: لكن هذه اللوحة تبدو جميلة..!
أجل كان هذا سبب التجمع الغريب! لوحةٌ رسمها أحدهم بفحمٍ أسودٍ على جدار بيت الرجل العجوز مما أثار حفيظة أهل يامن وغضبهم، فكيف يجرؤ أحدهم على تشويه مدينتهم النابضة بالنظافة والجمال؟!
لم يلبث الجمع أن تفرق وكل واحد منهم ينصح الرجل العجوز بمحو اللوحة بسرعة قبل أن يبلغ خبرها الأمير؛ فهم يعلمون أن الأميرَ لن يتساهل في ذلك وسيعاقب الفاعل حتمًا وكلَ من يتهاونُ في المحافظةِ على جمال مدينته!
ظل الرجل العجوز يتأمل للحظاتٍ تلك النخلةَ المائلةَ على بيتٍ من الطينِ متهالك القوى، ووجد فيها سحرًا جذابًا حتى أنه غَرِقَ في ذكرياته ولم ينتبه إلا على صوت طفلٍ صغيرٍ سأله بفضول: هل ستمحو اللوحة يا عم؟
التفت إليه الرجل العجوز وقال له ولرفيقيه: لا أدري لكن يحسن بي أن أفعل ذلك..
أبدى الطفل الآخر إعجابه هامسًا كأنما يخشى أن يسمعه أحد: تبدو  جميلة جدًا، أتمنى لو أستطيع رسم واحدةٍ مثلها!..
تبسم الرجل العجوز وودعهم وهو يدخل إلى بيته دون أن يبدي رغبة في إزالة تلك اللوحة التي زينت جداره الأبيض..
علم َجميع أهلِ المدينة بخبر اللوحة، وتباينت مواقفهم ومن لم يغضبْ منهم لعبتِ الغيرةُ على مدينته في نفسه... ومما ضاعف الضجةَ التي اجتاحت المدينة أن استيقظ أهلها في اليوم التالي على لوحة أخرى زينت بيتًا آخر، لكنَّ صاحبه سارع بمحوها وهو يتوعد من فعل ذلك بعقاب شديد أن سقط في قبضته!
وظهرت لوحة أخرى وأخرى.. وأهل يامن يحاولون عبثًا معرفة الفاعل، فكلما أطل صباح جديد تفاجئوا بزورق أو طائر أو شجرة أو حتى حديقة نقشت على جدرانهم، وفي كل مرة كانت اللوحة تنم عن إبداع وذوق جميل..!!!
من هذا الذي أحال مدينتهم إلى ورقة كبيرة وجعل يرسم في كل أركانها؟! وماذا سيفعلون لو استمر الوضع هكذا وفصل الربيع الذي يكثر فيه الزوار للمدينة يدنو بسرعة؟؟!
ولم يلبث الأمر أن بلغ الأمير رغم محاولةِ الجميعِ الحيولَ دون ذلك، غضب الأمير  غضبًا شديدًا، وأمر بمحو جميع الرسوم من على جدران المنازل، كما أمر جنده باستقصاء أثرِ الفاعلِ والبحث عنه بل وباستجواب جميع الرسامين في المدينة.. غير أن ذلك لم يسفرْ عن شيء، فلم يكن في مدينةِ يامن غير رسامين اثنين يملك كل واحدٍ منهما مرسماً صغيراً ولم يكونا ليفكرا حتى بفعل ذلك!
جعل الأمير يجول بنفسه عبر طرقات المدينة وسط تبجيل الناس له وسعادتهم به، فقد كانوا يحبونه ويقدرونه، وراقب بنفسه الجهد المبذول لإزالة الفحم الأسود من على جدران المنازل والمتاجر ..
وعندما بلغ منزل الرجل العجوز وقف ينظر إلى النخلة التي مالت على بيت الطين والتي لم تمحَ بعد، أقبل الرجل العجوز وحيّ الأمير الذي عاجله بالسؤال: لمَ لمْ تمحها بعدُ يا عم؟
نظر إليه الرجل العجوز وأجاب بهدوءٍ ومودة: حتى تراها بنفسك يا أميري الصغير..
ثم صمت للحظة قبل أن يستطرد وهو ينظر إلى اللوحة: إن من نقش هذا لم يكن يعبث، إنما أراد أن يبعث رسالة..أو أمنية..!
بدت الحيرة والدهشة على محيا الأمير وقبل أن يفصحَ عن سؤالٍ آخر بادره الرجل العجوز قائلًا: أظن أنني أعرف الفاعل..!
وشرع يبين للأمير ظنونه... وما لبث الأمير غير دقائق حتى أصدر أوامره بسرعة كبيرة!!
_ _ _
انسابت خيوط الفجر الأولى عندما وقف ذلك الرسام يرسم بسرعة قلعة شامخة بقطة الفحم على جدارِ أحد المنازل، فلما فرغ وقد بدت عليه السعادة والاستمتاع سمع من خلفه من يخاطبه بهدوء قائلاً: إنك ترسم بشكل جيد يا فيض!
التفت فيضُ فزعًا لتصطدم عيناه بأمير مدينة يامن، وخفق قلبه بقوة وقد أدرك أن أمره قد كشف ولا مفر،فاطرق برأسه منتظرًا ما سيقوله الأمير الذي تبسم وقال: أخبرني أحدهم بأنك كنت تتردد على بيته كأنك تتفقد لوحتك التي لم يزلها حتى الآن.. وقد صدقت شكوكه..
لم يجبه فيضُ من فوره إلا أنه قال بعد برهة بحزن: كان الوحيد الذي أحب ما أرسم!..عندما سألته هل سيمحو اللوحة أجابني بما أوحى لي بأنه أحبها.. أنا أحب الرسم كثيرًا لكن والدي لم يسمح لي بممارسته، حتى أنه رفض أن يشتري لي أوراقا وألوانًا كالتي يمتلكها الرسامون...
قال له الأمير بحزم: حسنًا أنا لا أنكر أنك تجيد الرسم، لكننا نحب أن تبقى مدينتنا نظيفة  جميلة، علمت منذ أسبوع أنك الفاعل وأمهلتك فرصة؛ لذلك ستذهب من فورك وتمحو بشكل جيد نخلتك التي رسمتها مائلة على بيت الطين! حتى يعلم الجميع أنك من فعلت ذلك..
نظر إليه فيض برجاء وقال: إن علم والدي بذلك فسيغضب مني..
أجابه الأمير بذات النبرة: أنا أريده أن يعلم؛ فجدران مدينتنا ليست ورقةً للرسم..
انصاع فيض الصغير لأمر الأمير، وحمل دلو ماء متوقعًا أن يجد كل أهل يامن هنالك،إلا أنه فوجئ بخلو الشوارع من سكانها، شرع يمحو الرسمة على عجل وهو يشعر بمرارة وخوف من ردة فعل والده وأهل يامن.. متوقعًا أن يأتي الجميع في أية لحظة! لكنه فرغ دون أن يمرَ عليه أحد مما أراحه قليلًا.. و حدث  نفسه متسائلًا:" عجبًا أين أهلُ يامنَ اليوم وقد كان هذا الشارع يعج بالمارة كل  صباح؟!!"
وفي تلك اللحظة تناهى إلى مسمعه وقع أقدام تجري، وأطل صديقاه من زاوية الشارع، هتف الأول متعجبًا: قال لنا الأمير أننا سنجدك هنا! ماذا تفعل؟
ولم يمهله الآخر وقتًا ليجيب بل جذبهُ بسرعةٍ وهو يقول: تعال هيا الجميع بانتظارك..
لم يستوعب فيض شيئًا وهو يجري بجوار رفيقيه، حتى إذا ما بلغ ساحة المدينة وجد كل أهلِ يامنَ هناك صغيرهم وكبيرهم  كأنما ينتظرون حدثًا مهمًا...
كان والده هناك ورساما المدينة هناك أيضًا ...ما الذي يحدث؟
وعندما رآه الأمير تبسم وأعلن في الناس حتى لا يطول انتظارهم قائلًا: لقد عملنا بجهد يا أهل يامن الأعزاء حتى نحول هذا المبنى إلى مرسم كبير يلجأ إليه الكبير والصغير منكم.. الموهوب أو المحب للفن، لم يجهز كليًا فأسبوع واحد لم يكن ليكفي لكني آثرت أن نفتتحه الآن تكريمًا لطفلنا الصغيرِ فيض صاحبُ الأناملِ المبدعة.. تعال لتقص الشريط أيها الرسام الصغير.. سيغدو هذا المبنى مدرسة للرسم بفضلك..
التهبت الجوعُ بالتصفيقِ ووقفَ فيضُ مسرورًا لا يكاد يصدق فدفعه صديقاه ليتقدم.. وهكذا أضيف معلمٌ جديدٌ لمدينةِ يامن يعلن أن الفنَ أحساسُ الحياةِ!!

ليست هناك تعليقات: