الخميس، 26 يوليو 2012

الوردة الزرقاء

هذه أيضا قصة منذ سنوات عدة..


( الوردة الزرقاء)

تنبهتُ على همساتِ وضحكاتِ الورد من حولي.. نشرتُ أوراقي ببطء.. إنه الصباح، خيوط الشمس تغمرني وأشجارَ بستان العم سعيد، إنه موطننا الأخضر الذي غرسنا فيه، وصحونا كل صباحٍ بنشوةٍ ونضارةٍ.. آه نسيت أن أعرفكم نفسي، اسمي الوردة الزرقاء وحيدة بين صاحباتي من الورود البيضاء، لكننا نعيش بحب ووئام وانسجام، سألتُ صديقتنا الصخرة: ألا ترين العم سعيد، ليس من عادته الإبطاء علينا!
قالت الصخرة وهي تشخص ببصرها للبعيد: لا.. لا أستطيع رؤيته من هنا، ربما لن يأتي اليوم.. ربما يكون مشغولاً بأمر ما..
هتفت إحدى الورود البيضاء: هيه.. اسمعوا.. صوت أقدام تقترب!
أيدتها الصخرة: نعم أحس بهذه الخطوات.. لكنها لا تبدو خطوات العم سعيد..
" من القادم؟.. من القادم؟ " همسات من أنحاء البستان ترقب الجواب بلهفة، ثم هتفت شجرة البيذام العملاقة: إنه طفل صغير..انظروا..
طفل! أنا لا أحب قدوم الأطفال إلى هذا البستان..
أخذ يجول في أنحاء البستان وكلنا خوفٌ من أن يطأ إحدى الشجيرات الصغيرة.. دنا منا، توقف ينظر إلينا بفرح بدا جليًّا في محياه، بل إنه أمعن النظر نحوي وهتف: وجدتها.. إنها رائعة.
ثم أخذ بالحفر حولي.. حملني بين يديه بحذر.. انتزعني من أرضي.. جرى بي نحو منزله وصحبي يئنون من خلفي... لماذا فعلت هذا أيها الطفل؟ إلى أين تذهب بي؟..
توقف أمام بيت من الطين، قاسى من أحداث الدهر، كان ضعيفاً هشًّا حياني بصوت منكسر، دلف الطفل إلى بيته ثم إلى غرفة مظلمة، ووضعني في إناء صغير...
" طارق.. طارق " صوت يناديه لا بد أنها أمه، هرع إليها وأنا أهتف من خلفة بجزع: لا..لا هل ستتركني في الظلمة، أتمنعني نور الشمس الذي أهوى.. هل هذه التربة التي تحضنني هي آخر ما أملك من أرضي؟!
مرت ثوانٍ ودقائق ثم عاد، فتح النافذة الخشبية بمرح، وأدناني من نور الشمس الذي أحب، أخذت أراقب صنيعه، لقد اخرج بضع قطع نقدية من علبة فخارية، ومن أحد أركان الغرفة أحضر زهرية قديمة، جلس على الأرض قال بصوت منكسر: لا أملك مالاً كثيراً لشراء هدية جميلة، ولكنه يكفي لشراء شرائط أزين بها هذه الزهرية.. حتما ستبدو جميلة.
قالها ونفسه مفعمة بالأمل، ثم أسرع إلى المكتبة.. يا ترى لمن يريد هذه الهدية؟
لا يهم أنا لا أحب أن أُهدى لأحدهم، أود العودة إلى بستان العم سعيد، هل تسمع.. أرجوك أعدني إليه..
ها قد عاد، وعمل بنشاط لتنظيف فتزيين تلك الزهرية، ثم أقبل نحوي، وضعني فيها بحذر.. سقاني الماء.. حدثني: أنا لا أملك غيرك أيتها الوردة الزرقاء.. استيقظي غداً نضرة فرحة.. سأهديك لأمي...
تركني على النافذة.. وغادر..
 الآن فهمت!.
ستكون نهايتي هدية لأم هذا الطفل، قد يبدو الأمر رائعاً.. لكن..
سكن غضبي، تحول إلى شرود وتأملات .. أنظر تلك القرية الصغيرة ومضى الوقت وأنا أذكر أصحابي، وبدأت الشمس بالرحيل، و تبسمت لي مشجعة، واستقبلت السماء بعض الغيوم، ثم حل المساء، دلف طارق غرفته، أغلق النافذة، وأحسبه أوى إلى فراشه بعدها... أعود أنظر إلى السماء.. ولكن أين القمر؟
يبدو أن السماء تلبدت بالغيوم السوداء، لم أستطع النوم وأنا أعلم أن المطر سيهطل في أي لحظة، من يحميني منه وقد كانت صديقتي الصخرة تفعل ذلك من قبل، من يقيني منه وقد كانت أوراق الأشجار الكبيرة تفعل ذلك من قبل.. وانهمر المطر.. قطراته ترتطم بي.. أحاول تفاديها بيأس.. لا.. فلينقذني أحدكم من المطر، فجأة!!
امتدت يد طارق تحملني.. آه ها أنا بأمان، وضعني على الأرض... فانساب صوت البيت المسكين متألما، آهٍ كم تقاسي يا بيت الطين.. شعرت بدفء، وظل طارق مستيقظا...
" طارق..  يا طارق.. إنه المطر.. هل أدلك على هدية أفضل مني تقدمها لأمك.. هيا أيها الطفل البار.. أدعو لها.. طارق.. طارق أتسمعني إنه المطر "
نظر نحوي لحظة.. ثم غادر الغرفة، عاد إليها بعد برهة، ورأيته راكعاً ساجداً،اسمع همسه المتضرع: "رب اغفر لأمي وارحمها واسكنها جنات النعيم"
لقد أطال الدعاء..
هل تعلم يا طارق؟
لقد انتزعتني من وطني، وما في الأرض امرؤ يحب الرحيل عن وطنه.. وحرمتني صحبي وما من امرئٍ يطيق البين عن صحبه، ومنعتني نور الشمس الذي أهوى، ونسيتني تحت المطر أقاسي الألم والبرد.. ومع ذلك لا أكره أن أكون هدية لأمك، لا أكره أن أكون هدية من ابن بار لامه في يومها، وها هو الغد سيأتي بالصباح، ستحملني فرحاً إلى أمك تقبلها وتقدمني وتشكرها، فترى السعد يغمرها، تضمك فتلثمها، ستضعني على نافذة غرفتها تراقبني وتسقيني مع الأيام.. ولا ألبث أن أذبل فأفني ككل من على وجه الأرض.. فأبقى هدية تذكر.. تمحوها السنين؛ لذلك أبدلتك بهدية خالدة.. وقت المطر.. لتكن هديتك كل يوم لها يا طارق دعاءً وقت السحر...
توقيع: الوردة الزرقاء    



ليست هناك تعليقات: