الثلاثاء، 10 أبريل 2012

في حياتي كتاب: عصي الدم لمنهل السراج


"عصي الدم، رواية عن التاريخ المحرم لمدينة حماة السورية، عبر جميع أطراف الحكايا المتعددة لكل فرد من أفراد أسرة هذه المدينة" أسرة أبو أيمن وزوجته سعاد التي ينتهي بها الحال لوفاة أبو أيمن بجلطة، ولتغرب أبنائه وعدم قدرتهم للعودة للوطن الحنون، فمخلص في انكلترا، وأيمن في السعودية، وفداء في استوكهولم، وبقيت بشرى ولينا وسمر في حلب وحماة، بينما غدرت غادة الحياة والوطن انتحارا بعد حالة اكتئاب كانت نتيجة عوامل متعددة بعد آثار أوجاع حماة عام 1982م، عبر هذه الشخصيات بتوجهاتها الدينية والسياسية والاجتماعية "تُظهر اختيارات كل منهم أوجاع النفس الإنسانية وأعماقها الدفينة"
الرواية للكاتبة منهل السراج، من إصدار دار الآداب 2012م م، ومنهل السراج رؤائية سورية تقيم في استوكهولم. صدرت لها العديد من الروايات: كما ينبغي لنهر، جورة حواء، على صدرين فضلا عن نشرها للعديد من المقالات التي تتناول الشأن العام السوري.
لن أقف عند تحليل الرواية ولا أمام عمق المأساة التي روتها بالتفصيل، سأقف فقط عند بعض الفقرات التي تتفجر من عباراتها إحدى القضايا التي طرحتها الرواية بقوة وعالجتها بواقعية وأسى. من خلالها ستتضح لكم معالم وأجزاء من رواية عصي الدم.
تتحدث الرواية ص150 عن ضحايا القصف، منهم التاجر منهم الصادق والكاذب، المخلص والخائن، الغني ذي الحسب والنسب، والفقير المعدوم... تقول:".. ومن بينهم أيضا مراهقون لم يلحقوا أن يفعلوا ما يفعل الآباء، لكن ذنبهم كان كبيرا، مقتلهم كان حماسهم، مقتلهم أن الأهل لقنوهم أن الدم الحامي كرامة وأن النخوة كرامة وفعلوا تماما كما لقنوا، وقتلوا ودفنوا وطمروا"
" كم العدد؟ قيل، ثلاثون ألف قتيل، وقيل أربعون ألفا، ومع أن المجال بين الرقمين واسع إلا أن كلمة الآلاف هذه كانت ضئيلة أمام ما حفر في ذاكرة الناس والمدينة من ذل وقهر.."
لعل في هذه المشاهد والتعابير أوج المعاناة التي شهدتها حماة آنذاك، ولعل في سابقتها أسباب شدة هذه المعاناة.. الشباب الذين خدعوا بالكلمات.. الكلمات التي لا تتمثل في تلقين الأهل بل أيضا في الجماعات المنظمة التي استولت على كيانهم والتي تتجلى مظاهرها في حياة أيمن وغالب اللذان انتهى حالهما بالهرب من سورية بعد اكتشافهما لزيف المبادئ التي قاتلا من أجلها، هرب بلا رجوع للوطن.. هذه كانت قضية الرواية الثورة وآلمها التي بدت باقي المحافظات متجاهلة لها كما عبرت الرواية.
بعد الأحداث ص177" سارعت فداء في أول فرصة لمغادرة المدينة، التحقت بمستشفى للاختصاص، تريد أن تنهي علاقتها بالمدينة التي لم تعد تعني لها إلا الموت والخوف، حدث بداخلها تغيير كبير، لم تعد تكترث لسماع أخبار العالم كما كنت تفعل، لم تعد تكترث إطلاقا بأخبار فلسطين التي كانت تحصي شهداءها كل يوم.."
التغيير الذي أصاب فداء هو جزء آخر من التغير الذي أصاب كل فرد من أفراد القصة، فدفعه ليشق طريقا غير الطريق التي اعتادها أو نشأ عليها، حتى أخواتها تغير بهن الحال، وتغير تفكيرهن، وعانت غادة بشدة من جراء التناقض التي نشأت عليه والواقع المحيط بهن في عرف المجتمع، هذا التناقض الذي دفع الأب في آخر لحظات حياته أن يسأل: هل ظلمت البنات؟
الأخوات الخمس في ظل هذه الأحداث الدامية حكاية أخرى، فقد رباهن الأب على حياة الكتب وطلب العلم والثقافة وطموح الحصول على الشهادات العالية يدفعه في ذلك قلة جمالهن وسمرة بشرتهن! أجبرتهن الأحداث للسفر للسعودية حيث أيمن وزوجته الشقراء الفاتنة.. ص190"..أدركت أن السبب الرئيس لمغادرتهم هو زوجة أخيهن وتشاوفها، المرأة الشقراء ذات البشرة البيضاء، وهنَّ البنات السمراوات اللواتي لم يطرق بابهن عريس، وهن بالتأكيد بلون الجلد وبدون عريس أقل شأنا، وتحولت شهادة الطب التي تحملها الكبيرة وشهادة التجارة للتي تليها ومشروع الطبيبة للثالثة، كله تحول إلى نقمة عليهن، فالعريس فقط هو القيمة الحقيقية في عرف الناس"
هذه القضية مطروحة من بداية الحروف الأولى للرواية لآخر حرف، الزواج الأمر الوحيد المعترف به في عرف الناس مهما بذلت الفتاة من تفوق علمي فشأنها ورفعتها الاجتماعية في الزواج أيا كان هذا الزوج!! فبرغم أن هذه القضية انمحت تدريجيا بزواج فداء البنت الكبيرة بزميل طبيب لها ومن بعدها تزوجت باقي أخواتها، إلا أن ثمن هذا العرف بين الناس كانت فداء وحدها من دفعه غاليا، فزوجها كان بخيلا متحررا الأمر الذي لم تكتشف فظاعته إلا لاحقا، عانت وحدها حتى أنجبت ولدا بعد رحيلهم للسويد، زوجها من توظف وجعل يركض لاهثا بحثا عن المكانة الاجتماعية له في السويد، هي وحدها تحملت جفاءه حتى انفصلت عنه لتعيش في بيت يعتمد على الإعانات المقدمة للمهاجرين مع طفلها الصغير، مجاهدة أن تبني ذاتها في الغربة بعد أن سحقتها التحولات التي ألمت بحياتها، ومنعها من العودة للوطن بسبب رسالة بريدية لم تظن أن كبسة زر فقط ستحرمها الوطن والأهل للأبد.
ومضت السنوات وتفرق الشمل، ص225:"ظلت المدينة لسنوات عديدة حارات فارغة، يائسة مقهورة.... صارت أسعار البيوت لسنوات بعد الأحداث، بسعر التراب، يقال رخيصة كتراب المدينة وأرواح أهلها. يقال، نحن وترابنا رخيصون. كثيرون تركوا وهاجروا وكثيرون هاجروا ورجعوا، ومع الهجرة والعودة لم يحدث شيء إلا المزيد من البؤس واليأس"
ملخص الألم لسنوات طويلة... تحكي القصة أحداث مؤلمة، وبطريقة جيدة تعبر الكاتبة عن الاتجاهات التي تعيش في المجتمع السوري آنذاك.. المسلمون، الشيوعيون، النظام، وغيرهم عبر اهتمامات كل فرد من أفراد العائلة التي انتهت بالتمزق والتشتت.

ليست هناك تعليقات: