الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

قصة: أجمل اعتذار

أظن أن الحكاية الآتية لا بأس بها للقراءة.. كتبتها قبل سنوات ربما 4 أو5 أو يزيد.. لا أذكر! 

( أجمل اعتذار..)
في قرية بعيدة خضراء، كان يقع بستانٌ زاخرٌ بشتى أنواع الثمر، ويحوي منها كل ما يسر النظر، وكان محاطاً بسور منيف تبرز منه قمم الأشجار النضرة، كان هذا البستان ملكاً لرجل رزقه الله الخيرَ الوفير والخلقَ النبيل، فأحبه أهل تلك القرية الطيبة وقدروه وأجلوه؛ لعطفه عليهم وحبه لهم..
وكان هذا الرجل الطيب قد أوكَل العناية ببستانه الكبير لشاب في مقتبل العمر يدعى عامر، الذي كان محبًا للأشجار بارعًا في العناية بها، كما كان الرجل الطيب يثق بشدة في أمانة عامر وإخلاصه..
كان عامر يستيقظ كل صباح بنشاط وهمة عالية، ويطوف بين أشجار البستان ليحي كل واحدة منها؛ فقد كانت بمثابة الصديق والرفيق له، لم تفترْ همةُ عامر لحظةً واحدة، فمع ولعه الشديد بالبستان كان أيضاً يحب صاحبه الذي كان دومًا يعامله كابنه، والذي منحه المسكن والمأكل والمشرب بل وحتى العطف والأمان ؛ لذلك أزمع عامر في نفسه على رعاية هذا البستان وجعله جنة خضراء تسر الناضرين..
كان عامر يقطن في كوخٍ صغيرٍ ومريحٍ قربَ البستان، وحدث ذات ليلةٍ أن كان نائمًا في سريره الوثير عندما أحس بحركةٍ مريبةٍ في البستان استيقظ على إثرها، وعندما أرهف السمع تبينت له أصوات غريبة تنبعث من مكان قريب، فحمل عصاه الغليظة على عجل وخرج مسرعًا ليتبين الأمر، أشعل عامر السراج الذي كان  معلقًا أمام الكوخ؛ ليبدد شيئًا من الظلمة المحيطة به، ودقق النظر في ما حوله محاولاً اختراق العتمة ببصره، مركزًا في الركن الذي ظن أنّ الأصوات تنبعث منه، ولم يكذب خبراً فقد ميز شبحين وقفا قرب الأشجار وجعلا يجنيان منها ثمارها الطيبة، فاستبد به الغضب وصرخ فيهما متوعدًا ومهددًا وهو يحرك عصاه في الهواء حتى أنها اصطدمت بالقنديل المعلق على جانب الكوخ فأخذ يتأرجح من خلف عامر الذي انطلق خلف الشبحين محاولاً اللحاق بها، لكن عامر لم يستطع إدراكهما لفارق المسافة ولسرعتهما في العدو، فقذف ببعض الحجارة نحوهما وهما يتسلقان إحدى الأشجار ويثبان منها نحو السور ثم يثبان منه مرة أخرى نحو الأرض، ميز عامر أصوات عدوهما في الجهة الأخرى، فعاد أدراجه نحو الكوخ مدركًا استحالة اللحاق بهما، وحانقًا من نفسه لعدم قدرته على التعرف عليهما وإن كان موقنًا أنه لن يهدأ له بال حتى يلقي القبض عليهما..
وعندما غدا قريبًا من الكوخ شمّ رائحة دخانٍ في الهواء ، فجرى ملتاعًا نحوه لتصطدم عيناه بالنار التي أتت عليه وبدأت تلتهم شجيرات البستان!
تسمر عامر لحظاتٍ في مكانهِ غيرَ قادرٍ على التصرفِ أو حتى التفكير،كيف يطفئ هذا الحريق الذي أتى على أجمل أحلامه؟ بمن يستغيث في قرية سجى عليها الليل وغفت أعين سكانها؟!
تنبه عامر أخيراً.. جرى بأقصى سرعته حتى بلغ بوابة البستان ومنها إلى أقرب بئر في محاولة لجلب بعض الماء، لكن النار كانت أسرع منه وتصاعد لهيبها من خلف الأسوار، وتآزرت الريح معها لتعجل من حصادها!
انتاب عامر الخوف والعجز وهو يرى الأمانة التي عهد بها الرجل الطيب إليه تحترق أمام عينيه حتى أنه لم يستطع الصراخ طلباً للعون، وتملكه الجزع وأخذت الوساوس تدور في رأسه؛ فخشي أن يُتهم بإحراق البستان، فأطلق ساقيه للرياح وأخذ يجري مبتعداً وقلبه يخفق بقوة، والخوف يبدو جلياً في عينيه ..والبستان ينهار من خلفه!!
مرت أيام صعبة على عامر وهو يجول من مكان إلى آخر لا يلوي على شيء،كان يحس بوخز الضمير والندم على هروبه وفراره من تحمل المسؤولية، كما أنه خجل من العودة بعد انقضاء تلك المدة، ولم يجد في نفسه عذراً يحفظ به ماء وجه أمام الرجل الطيب.
سار عامر حتى وصل قرية أخرى وقد بلغ منه الإعياء مبلغه، فاستطعم أهل تلك القرية فأطعموه وأكرموه عندما علموا بأنه غريب عن تلك الدار، وعندما هدأ بال عامر واطمئن على أمره عزم أن يجد له عملاً مهما كان بسيطاً ليتكسب منه، وسرعان ما تعرف على نجار عجوز علمه الحرفة فبرع عامر فيها، وجعل يعمل بجد وإخلاص كدأبه، ويجمع ما يحصل عليه من مال  ولا ينفق منه إلا أقل القليل، ومرّ عام كامل على عامر في تلك القرية دون أن تمضي عليه ساعة إلا وبستان الرجل الطيب لا يفارق ذهنه لا هو ولا صديقاته الأشجار، وكان كلما مرّ على بستان مزهر شعر بالغيرة والحسرة.
عمل عامر بهمة لا تفتر جعلت من الندم والألم وقوداً لها، فقد كان موقناً أنه لا بدّ أن يأتي يوم يعود فيه لقريته الحبيبة معترفاً بخطئه، وعندما صار لديه المال الوفير اشترى بستانًا لا يكاد يمثل نصف بستانه القديم، ومع ذلك عمل فيه ليلَ نهار لمدة عامٍ آخر ليجعله جنة أخرى تغرد فيها العصافير وتتنفس عبق الزهور منها، زرع أشجارًا من كل الأصناف فكبرت مع عزمه وحبه العظيم، وأصلح كل ما تلف فيه فغدا نابضاً بالحياة والأمل مثل قلبه الكبير.. كان سعيدًا بها وكانت محط أنظار أهل القرية الذين أخذوا يتساءلون عن سر نضارتها وبهجتها؟!
وحينما بلغ عامر هذا المبلغ أدرك أن عليه أن يعود، فشد رحاله وقفل راجعًا إلى القرية التي ظل فؤاده معلقًا بها طوال تلك الأيام الثقيلة، وعندما وصل لم يتعرف عليه بعض أبنائها ومن تعرف منهم عليه رماه بنظرات العتاب أو الشك أو الازدراء! كتم كل ذلك في نفسه وهو يمنحهم ابتسامته الخجلة مدركًا كم هو عارٌ الهروب من الخطأ الجسيم، اتجه إلى بيت الرجل الطيب وذهل عندما التقت عيناه بمنزل آخر  حل محل منزل الرجل الطيب بل ومحل جزءٍ كبير من بستانه.. خفق قلبه خشية أن يكون مكروه قد أصاب الرجل الطيب في ذلك الحريق، فلما سأل الناس عنه أرشده صبي صغير إلى منزل آخر أصغر حجماً يحيط به بستان صغير شعر عامر بغصة عند رؤيته..
طرق عامر باب المنزل الجديد ونبض قلبه يتضاعف مع كل طرقة، فلما فُتح الباب وأطل الرجل الطيب من خلفه تحاشا عامر النظر في وجهه ولم يعرف ما يقول، إلا أنه فوجئ بالرجل الطيب يهتف بنبرة فرحة: عامر! هذا أنت يا بني.. لماذا غبت عنا هكذا؟ تعال أدخل تسرني رؤيتك مجدداً..
لم يستطع عامر الرد على حفاوة الرجل الطيب وانقاد لذراعه وهي تجذبه إلى الداخل، وعندما استقر بهما الحال حاول عامر لملمة شجاعته والحديث بما جاء به، قبل أن يسمع الرجلَ الطيب يسأله بهدوء: أخبرني عن حالك وأمرك؟
عندها نظر عامر إليه وغرق للحظة في ملامحه السمحة قبل أن يسأله بتردد وخفوت: ألست غاضباً مني على ما فعلت يا شيخ؟
بادره الشيخ سائلاً وهو يعقد حاجبيه: وماذا فعلت؟
بلل عامر شفتيه بارتباك وأجاب بصعوبة:لقد احترق البستان بسببي..جئت معتذراً إليك ..
قال له الشيخ بنبرة تعمدها: معتذراً... بعد عامين؟!
هتف عامر محاولاً الدفاع عن نفسه: لا تعجل علي يا سيدي وأمهلني أخبرك عما حدث..
صمت الشيخ للحظة ثم قال وهو يعتدل في جلسته: تفضل يابني..
شعر عامر بمزيد من الألم أما سماحة الشيخ، فأخذ نفساً عميقاً وقال: تلك الليلة تسلل شخصان إلى البستان يريدان سرقة ثماره، فلما انطلقت خلفهما لم انتبه على أنني أوقعت السراج، احترق الكوخ وامتدت النار للأشجار.. لا أنا استطعت إيقافهما ولا أنا استطعت التصرف بحكمة لتدارك النار وإطفائها، تملكني الخوف وخشيت أن تظن أني تعمدت إحراق البستان، أقسم لك أني لم أقصد ما فعلت!..
صمت عامر لوهلة لكنه استطرد بسرعة كأنما يخشى رفض الشيخ لكلماته: مضيت لا ألوي على شيء ،حتى استقر بي المطاف في قرية قريبة عملت بها في النجارة وأشغالٍ أخرى، فلما ملكت المال اشتريت به بستاناً صغيراً، عملت به عاماً آخر حتى غدا كبستانك سيدي.. وجئت أقدمه إليك.. أنا أدرك أن ثمنه لن يأتي بمثل بستانك، لكن فقط أمهلني عاماً أو عامين وأعدك أني سأبذل جهدي حتى أسدد ما علي.. أرجوك اقبله..
ضحك الشيخ وقال: قبلته منك يا بني ووهبتك إياه..
دهش عامر من ردت فعله، وحملت عيناه تساؤلاً وحيرة، فعاجله الشيخ قائلاً: قل لي يا عامر.. هل رميتَ المتسللين بالحجارة؟
هز عامر رأسه بالإيجاب.. فعاود الشيخ سؤاله والبسمة تلوح على شفتيه: ألم تتعرف عليهما حينها؟
أجابه عامر: كلا..
فقال له  الشيخ مبددًا الحيرة التي كست محياه: لقد كانا ابنا الحطاب، ظن والدهما أن لهما علاقة بحريق البستان عندما رأى أثر الحجارة في وجه أحدهما، ضغط عليهما حتى اعترفا أمام الجميع، لكنهما أنكرا أنهما قاما بإحراق البستان، ولما لم نجد لك أثر ظن البعض أنك من فعلت ذلك، لكني رأيت هذا منافيًا للعقل، تطاردهما ثم تحرق البستان؟! وكيف تحرق شيئا تعلقت به وأحببته بل هو مصدر رزقك! لا يعقل هذا ولا هو من شيمك.. كنت واثقًا بأنك ستعود لتخبرني الحقيقة وهاأنت فعلت..
تمتم عامر بكلمات معتذرة وهو مطرق الرأس، في حين أردف الرجل الطيب: لم يتضرر المنزل كثيراً من جرا الحريق، استطعنا السيطرة على النار بعد فترة طويلة وأنا أدين بذلك لأهل القرية الطيبين، بعت المنزل لتاجر غني جاء إلى القرية في ذلك العام، فاستصلح المنزل والأرض وبنى فيه بيتًا له أظن أنك رأيته...
تعرفتُ على التاجر عندما حضر إلى القرية، وتوطدت صداقتي به وفوجئت به يطلب يد ابنتي لولده فوافقت عليه.. أما أنا فآثرت السكنى في بيت صغير يحيط به بستان نضير كما ترى..
نظر إليه عامر وقال بخفوت: لكن ذلك لا يعوضك ما خسرته..
تبسم الرجل الطيب وأجابه: لم أخسر الكثير يا بني.. صحيح أنني أحببت ذلك البستان ولكن ما أنا فيه الآن قد يكون أفضل..
سأله عامر مجدداً: لكن لماذا؟..
فهم الرجل الطيب ما يرمي إليه عامر فأجابه: اسمع يا بني أخطأ الكثيرون في حقي ولا أبرئ نفسي.. ولكن اعتذارهم لم يتعد الكلمات التي لا تفيد في أغلب الأحيان.. بينما أنت يابني وعلى صغر سنك جئت لتخبرني أنك عملت جهدك لتدفع لي بستاناً مثل بستاني..وتتعهد بمتابعة عملك لتعوضني عنه رغم أنك لم تقصد ما حدث ولا تكاد تملك شيئًا لذاتك.. اعتذارك المقترن بالعمل الطيب هو أجمل اعتذار تلقيته في حياتي..
ومع ذلك أبى عامر إلا أن يبيع بستانه ويشتري آخر بقرب الرجل الطيب ليعمل فيهما من جديد ويحيلهما جنة خضراء كما اعتاد ، فرحب الرجل الطيب بذلك..
وهكذا عرف أهل القرية بحقيقة ما حصل وكبر عامر في نظرهم وظل جميل اعتذاره عالقاً في أذهانهم..
تمت

ليست هناك تعليقات: