الاثنين، 5 ديسمبر 2011

الصدفة الحزينة

قصة قصيرة منذ الطفولة!! الغريب أن بعضنا يؤمن فعلا بمبدأ: لا بأس بحزني إن كان فيه سعادة الآخرين!

( الصدفة الحزينة )

ذات ليلة أطل القمر من وراء الغيوم، يحرس المدائن والقرى، يراقب الورى.. فشد انتباهه بيتٌ صغير يقطن قرب البحر..ألقى نحوه نظرة فضول وتساؤل.. وهناك رأى طفلاً يقاسي ألم المرض.. يرقد بضعفٍ على سرير بالٍ .. ويجلس والده بجانبه ونفسهُ تصرخ بالقلق ، وتعصف بها رياح المرارة والعجز..لم يطل القمر تلك النظرة.. لقد أثر فيه مرض عمّار الصغير، فانسحب وجعل يرمي البحر بنظرة طويلة.. وامتزجت أمام ناظريهِ لحظات فرحٍ وساعات حزن.. لم يستطع معها الصمت.. فتحدث.. وجعل يروي لنا القصةَ منذ البداية:
تسلل عبر أحلام هيثم صوت غريب، لم يستطع تميزه للوهلة الأولى..أخذ الصوت يعلو.. وينتشل هيثم ببطءٍ من عالم الخيال إلى عالم الواقع..
أحدهم يبكي!!
استيقظ هيثم لتصطدم عيناه بظلام الغرفة الذي لا يبدده سوى مصباح صغير.. أخذت عيناه تبحثان عن مصدر البكاء الذي بدا أكثر وضوحاً.. إنه قادم من ناحية الصدفة الكبيرة.. بل هو صادرٌ عنها!!.
" أرجوك.. أرجوك أعدني إلى البحر.."
هتفت بها الصدفة بتضرعٍ وأمل.. الصدفة التي جلبها عمه من شاطئ البحر صباحاً وأعطاه إياها..
" أرجوك يا هيثم.. أعدني إلى موطني وملاذي..أعدني على البحر.."  
عاودت الصدفة النداء، فتقدم منها هيثم ذاهلاً ورد عليها مجيباً: أُعيدُكِ إلى البحر؟!.. كلا لن أفعل.. ولماذا أفعل وقد صرت مُلكاً لي وقد أحببت وجودك في غرفتي..
قالت له الصدفة ببطء: هيثم.. اسمعني.. لقد عهد إليّ البحر بمهمةٍ عليّ تنفيذها .. إن كنت بالنسبة إليك صدفة رائعة الألوان تُباهي بامتلاكها وتكحل عينيك برؤيتها.. فإني أعني لغيرك آخر أمل.. ليكن في قلبك إيثارٌ أيها الطفل الصغير.. لا بأس في حزنك إن كان فيه سعادة الآخرين!
عجز الطفل عن قول شيء للحظات، لم يكن يدرك حقيقة هذه الكلمات التي نطقت بها الصدفة..ثم قال بحيرة: ولكن.. ماذا تقصدين؟! من هو الذي ينتظركِ؟ وبماذا كلفك البحر؟
أجابته بعد برهة صمت استرجعت معها أحداثاً تفيض بالألم: في ليلة قريبة وفي وقت متأخر منها.. تناهى إلى مسمع البحر صوتٌ يشكو ويبث حزنه العميق.. لم يتبين البحر صاحب الصوت بدايةً ولكنه لم يلبث أن أدرك أن صاحب هذه الشكوى المريرة هو الصياد حسن.. الصياد حسن الذي لطالما ركب البحر وحدثه وانشد له عذب قصائده.. في تلك الليلة وبهيئة رثة ووجه شاحب حزين جاء الصياد حسن يشكو للبحر مرض طفله الصغير عمّار.. يطلب منه العون.. لقد كان يبكي.. وكيف لا يحزن شيخ على فلذة كبده.. ابنه الوحيد يحتاج على علاج سريع مكلف لا يستطيع عليه الصياد حسن.. هنالك جلس على صخرة لا تهاب الموج وهمس مناجياً: جئت إليك يا بحرُ وقد صاحبتك سنين عمري.. فلم تخذلني مرة أو تمنع خيرك عني..فلا تبخل علي اليوم يا بحرُ بدعاءٍ بشفاء ابني.. وجُدْ بدواءٍ إن كنت تملكُه علّه يجدي.. يا بحرُ قد طال صبري وطال بلاءُ عمّار طفلي.. يا بحر عونك من الله اطلبه ولله أشكو يا بحرُ فقري وعجزي وهمي..
همس بهذه الكلمات ثم اتبعها بصمتٍ طويل، ثم عاد على منزله منكسر القلب وصورة عمّار لا تفارق مخيلته..
وفي الأعماق بلّغني البحر بهذه القصة المؤلمة، وبرغبته في مساعدة الصياد حسن.. قال لي: سأقذفكِ على الشاطئ ليجدك الصياد حسن، فتهديه كنزك الثمين الذي تضمينه بين جنبيك..
فأجبته يا هيثمُ: حباً وكرامة.. من أجلك يا بحر أنا سأغادر موطني وأفارقكَ وأفارقُ صحبي.. من أجل عمّار أنا سأجود بكنزي وهو أغلى ما عندي.. لا باس بحزني عليه إن كان في ذلك شفاءُ غيري!..
تبسم لي البحرُ وشكرني على تضحيتي وقال: إن فعل الخير لا يذهب سدى، وإن جزاءهُ خالدٌ أبدا.. لا تحزني أيتها الصدفة.. كلنا نحبُ عمّار.. لنضحي من أجل من نحب..
فقذفني البحر من أعماقه نحو الشاطئ، وظللتُ أنتظر الصياد حسن، فلما أبطأ علي وقد كنت بجانب قاربه جاء عمك وأخذني وقد أعجب بإبداع الخالق فيّ.
صمتت الصدفة تراقب تأثير كلماتها على هيثم ثم أردفت: من أجل عمّار يا هيثم أرجعني إلى البحر..
أطرق هيثم برأسه للحظاتٍ ثم تمتم بحياء: أظن إني فهمت الأمر.. عمّار أحق بكِ مني.. ولكن هنالك مشكلة في إرجاعكِ.. لست أدري من أين أحضرك عمي..
تبسمت وقالت بلين: إن البحر هو البحر بزرقتهِ وصفائه.. فقط اقذفني فيه وسأجد طريقي بعون الله..
ومع شعاع الفجر انطلق هيثم إلى شاطئ البحر القريب من بيتهم البسيط، ودّع الصدفة وقذفها في البحر.. قذفها وهو يغالب شعوراً بداخله يسعى للاحتفاظ بها..قذفها فارتطمت بالمياه وغاصت وهي تعتذر للبحر وتطلبُ منه العون للرجوع وتعده بتنفيذ المهمة على أكمل وجه.. وظلت الأمواج تتقاذفها إلى أن بلغت مقصدها..
صمت القمر عند هذا الحد، وأخذ يرمق الصدفة القابعة على رمال الشاطئ المظلم،متأملاً متمنياً مجيء الصياد حسن ..ومضى الوقت ببطء.. ومضى ومضى.. والصدفة تترقب قدومه، والقمر متلهفٌ قلقٌ يجول بناظريه بحثاً عنه..
وفجأة! أطل الصياد حسن يمشي الهوينا بقلبٍ منكسر، لكنه تفاجأ بصدفةٍ كبيرةٍ جذابةٍ تقبع بقرب الصخرة التي اعتاد الجلوس عليها، حملها بين كفيه ينظر إليها متعجباً ثم فتحها.. وهناك رأت عيناه بداخلها لؤلؤة كبيرة ثمينة.. لؤلؤة من لآلي خليج عمان.. لؤلؤة كانت تحل جميع أزماته المالية، وتجلب لعمّار الصغير العلاج وهذا أسمى ما يتمنى.
وبعد أسابيع كانت الصدفة تستقر في مكانٍ عليّ في غرفة عمّار الذي تماثل للشفاء، تراقب فرحة والده، وتراقب عمّار الذي أخذ يحلم بمستقبل زاهر يحكي قصصه لوالده.. مستقبلٍ كان قد نسيه في مرضه..
تنهدت الصدفةُ بعمق.. هي من غادر موطنه الحبيب.. هي من ضحت بأغلى ما تملك فلم تعد لها قيمة سوى أن تكون تحفة في غرفة صغيرة.. ولكن هذا لا يهم..
حدثت نفسها: لا بأس.. لا بأس أن يكون في حزني سعادة الآخرين.. لا باس أبداً!!


ليست هناك تعليقات: