الاثنين، 5 ديسمبر 2011

رحلة قصيرة إلى منال


منال... القرية المنسية

بعد إلحاح دام لمدة أسبوعين وافق والدي على مرافقتي لزيارة قرية منال الأثرية التي تقع في وادي بني رواحة، وكان سرُّ الموافقة السريعة أن هذه الزيارة مرتبطة بمشروع مادة دراسية أحببتُ أن أقدمه بأسلوب مميز، ذلك عن طريق زيارة أحد المواقع الأثرية في السلطنة للتعرف على آثاره من كثب وتوثيق الزيارة بالصور.
انطلقنا من منزلنا ( أنا وأخي الأصغر وأبي) في حدود الساعة التاسعة من صباح إحدى الجمعات، وهو اختيار موفق لوالدي حتى يجبرني على ترك المكان بسرعة مراعاة للشعائر الدينية! أمضيت الوقت في تذكر زيارتي الأولى لمنال، حين كنت في الصف الحادي عشر، حيث قامت مدرسة مادة (هذا وطني) بأخذنا لهذه القرية الأثرية أنا وبعض زميلاتي في المدرسة، وكانت هذه الزيارة هي من عرفتني على هذه القرية المنسية التي لا يكاد يعرف أحد بوجودها غير المختصين بالآثار العمانية وسكان قرية منال والقرى المجاورة لها، رغم أنها تعدُّ من أهم القرى الأثرية في السلطنة، لكنها ليست بشهرة البليد أو رأس الحمراء وغيرها من المواقع!

توقفت السيارة فجأة.. وسمعت أبي يقول لي: هذه الآثار الموجودة في منال. وأشار بيده إلى برجين على جانبي  الشارع وقفا بشموخ يحسدان عليه! استغرقت لحظات لاستيعاب الموقف.. أنا أريد منال بكل قبورها وأبراجها لا برجين يقفان في مكان لا يفترض أن يكونا فيه! قلت له: لكن هنالك منطقة مسورة بسور أخضر بها العديد من المقابر والأبراج وتقع بقرب الشارع الرئيس في المنطقة.

- لا أعرفها.. هذه الآثار التي أعرفها هنا.. بإمكانك التقاط صور لها.. والمنطقة التي تصفينها إن كانت موجودة فأهل القرية هم أدرى بها ولا أكاد أعرف أحدًا هنا..
وكانت هذه العبارة قد قضت على كل الصور والمشاهد التي استحضرتها للقرية في فكري، فجعلت أتسلى بالتقاط بعض الصور قبل أن يدير أبي السيارة ليعود من حيث جئنا، لكنه لم يلبث أن توقف على جانب الشارع والتقط هاتفه السحري ليتصل بشاب يعرفه من المنطقة حتى يرشدنا لمنال، حينها عادت نبضات قلبي للاستقرار.. المشروع سيكتمل بلا شك!
ذهبنا إلى القرية بصحبة مرشدنا الهمام، وما إن نزلنا من السيارة حتى أدركنا أن هنالك مهمة صعبة للدخول إلى المنطقة الأثرية، فهي تقع في مستوى مرتفع فيما يشبه التلة الممتدة، والسور الأخضر يحيط بها دون أن يكون هنالك باب يمكن الولوج عبره، والحل الوحيد هو صعود التل والتشبث بحافة السور  قبل أن نلقي بأجسادنا عبر فرجة ضيقة داخل المنطقة وإذا لم نتشبث بحافة السور ستنزلق أقدامنا ونهوي في الشارع. وبعد أن استوعبنا كيفية القيام بهذه الحركة نظر إلي أخي وقد ضاقت عيناه، فخمت السؤال الذي سيطرح قبل أن يتكلم: ما نوع الحذاء الذي ترتدينه؟! فرفعت قدمي قليلا لأريه مدى فطانتي واستعداداتي التامة لهذه الزيارة!
صعدنا التل وبمساعدة أخي استطعت اجتياز حافة الهلاك، وما إن عبرناها حتى برزت أمامنا منال بكل عراقتها وقدمها، وبكل أبراجها وقبورها العديدة التي اتخذت شكلا دائريًا  والتي بنيت من الحجارة، كان أشدّ ما يدهشني في هذه القرية الفسيحة نوعًا ما تلك التقسيمات والتكوينات الحجرية الباهرة بامتزاج ألوانها وتعدد أشكالها وأحجامها وأنواعها ما بين نارية ورسوبية ومتحولة، فضلا عن أشكالها التي بدت لي غريبة بعض الشيء وخيل لي أن أحداها تشبه رأس الإنسان، كما وجدت حجرًا بدا وكأنه مغلف بطبقة من الطين بغرابة منظره وملمسه. كنت أنا وأخي نعمل على التقاط صور لكل ما يقع تحت ناظرينا، في حين سار أبي والشاب المرشد يجولان في المنطقة يشرح الشاب لأبي مواقع الحفريات التي قامت بها جامعة السلطان قابوس ومعنى تلك التراكمات الحجرية التي كانت تمثل قبور سكان المنطقة، ويدله على بعض الآثار كالأصداف والفخار التي ما زالت موجودة في مكانها ليومنا هذا لا يحاول أحدهم لمسها أو سلبها، فينقل لنا أبي المعلومات والشرح فأعود لألتقط صورة بعد صورة لكل شيء يثير انتباهي وأنا أحدث أخي عن تاريخ هذه القرية التي تعود لأواخر الألف الثاني وبداية الألف الأول قبل الميلاد أي العصر الحديدي، وقد كانت معروفة باسم (وبال) وهو اسم يحمل مدلولات لكوارث حلت بالمنطقة قبل أن يغيره جلالة سلطان البلاد إلى اسم (منال) القرية الأثرية التي اكتشفت إثر عملية حفر من أجل بناء الشارع العام في المنطقة، فهي أثر يضاف إلى السجل الزاخر بالآثار العمانية المكتشفة بالطريقة ذاتها!


كانت هنالك العديد من الركامات الحجرية التي تشكل المقابر، لم أحصها لكني أظنها تتجاوز العشرين مقبرة في حدود المنطقة التي تجولنا فيها فقط، واستطعنا رؤية التحصينات الدفاعية فوق الجبل وهي ما تميز قرية منال وتدل عليها. سمعت أبي ينادينا وقد توغت أنا وأخي في المنطقة لأننا لا نستطيع رؤية شيء من بعيد بل يجب أن نقترب منه لأقصى حد حتى نشفي فضولنا! أعلن أبي انتهاء الزيارة فأعلنت عن رغبتي في رؤية مسجد القصر حتى أُضمّن صوره في العرض الذي سأقدمه بما أنه أثر تاريخي آخر موجود في المنطقة، فأذعن أبي لطلبي وحدث المرشد الذي دلنا على طريق جعلنا نسير عبر نفق ضيق أسفل جسر حتى نتمكن من دخول المنطقة  التي  تضم المسجد الذي يعدٌّ من أهم الآثار لقدمه رغم مظهره الحديث نوعًا ما بعد ترميمه، التقت صورًا جميلة له، وتذكرت مشهدًا قبل أربعة أعوام خلت، حين وقفنا أمام المسجد وجعلت معلمتنا تحكي لنا بعض الأساطير التي نسجت حوله، أذكر منها أنه يقال أن أهل المنطقة استيقظوا ذات صباح ليفاجئوا بوجود المسجد الذي لم يكن موجودًا في أمسهم القريب.. قالوا أن الجآن بنوه!
لم نستطع المكوث في المسجد كثيرًا فقد داهمنا الوقت الذي أخذ يعلن عن دنو موعد صلاة الجمعة، ودعته وعيناي متعلقتان بحديقته الغناء التي أحببتها بشدة، وفكري يحاول أن يبحث عن تفاصيل الأساطير الأخرى التي دارت حوله دون أن ينجح في ذلك.

 مسجد القصر

ليست هناك تعليقات: