الجمعة، 2 ديسمبر 2011

في حياتي كتاب1

عين وجناح... متعة الترحال والسفر
تعدُّ رحلة عين وجناح لكاتبها محمد الحارثي من أجمل المؤلفات في مجال أدب الرحلة وأكثرها إمتاعًا وطرافة بل وأهمية ، فهي إضافة مميزة للأدب العربي الحديث عامة والأدب العماني خاصة، وهي الرحلة الحاصلة على جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي2003م التي تمنحها دار السويدي للنشر والتوزيع للرحلات الحديثة رغبة منها في إحياء هذا النمط من الأدب الذي كاد أن يتلاشى من مكتباتنا.
ويأتي سبب فوز هذه الرحلة بالجائزة من بين 14 كتابا لكتاب جلّهم من المعروفين، وبعضهم مشهور في الثقافة العربية، رغم أنه المؤلف الأول لصاحبه في هذا المجال، إلا أن جمال اللغة وأناقتها واتساع رقعة التجوال والسفر التي شملت أربع قارات، فضلا عن الحضور الطاغي للخبرة الروحية والعلمية بالمكان والشغف به، كانت المؤهل لأن تنال هذه الرحلة الجائزة باستحقاق.
ولقد صدرت هذه الرحلة عن دار السويدي بالتعاون مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام2004م، أن الطبعة احتوت على بعض الأخطاء مما دفع المؤلف لإصدارها مرة أخر منقحة مزيدة عام2008م عن دار الجمل.
يضم الكتاب ست رحلات متنوعة ومتباينة وممتعة في الوقت ذاته، سجل فيها المؤلف تفاصيل رحلته في الجزر العذراء، وزنجبار، وتايلاند، وفيتنام، والأندلس، والربع الخالي. وتشترك جميع هذه الرحلات في الهدف الذي لا يكون غالبًا إلا حب المغامرة والسفر واكتشاف مجتمعات البلد المزار.
 ولعل ما يزيد من إمتاع الرحلة وثرائها، أن الكاتب يعمد إلى إبراز فلسفته الخاصة بأسلوب سلسل بين ثنايا كل رحلة، فضلا عن لغته الطريفة التي تجذب القارئ للكتاب وتدفعه لقراءته حتى الصفحات الأخيرة، وقد ميز الكاتب رحلته بكمٍ هائل من المعلومات التاريخية عن البلد المزار مما يؤكد للمتلقى سعة إطلاع المؤلف وتعمقه في البحث عن تفاصيل مميزة عن البلد الذي يكتب عنه.
كما أن المؤلف يثبت من خلال ما يرصده من مشاهدات وما يقع فيه من مآزق أنه ليس ذلك السائح العادي الذي يكتفي بزيارة ما يراد له أن يراه فقط، لكنه يعمد إلى محاولة سبر أغوار المجتمع الذي يزوره ويحاول أن يمارس شيئًا من عادات أهله حتى يتقرب إليهم، وهو يمتلك من الجراءة ما يدفعه لزيارة أماكن خطرة لا يتجرأ الزائر العادي على دخولها، فنجده يجول في الشوارع الضيقة والأزقة الخطرة ليلا، ويزور الأحياء الفقيرة مصرحًا بحبه للقيام بذلك مهما اكتنف الأمر من أخطار!
وسنجده مهتمًا جدًا بزيارة الأماكن الدينية مثل المساجد والمجامع والمعابد وكذلك بعض القصور مثل بيت العجائب بزنجبار والقصر الصيفي للإمبراطور " باو داي" في فيتنام وغيرها ، ويصف جمال منظرها ويذكر شيئًا من تاريخها، ويزور الأسواق الشعبية ويبدي دهشته من تعدد أصناف الفواكه والخضروات التي لا يكاد يعرف شيئًا عنها! وهذا مما يجذب القارئ للرحلة، فهي حافلة باللمسات الغرائبية التي تبهر المتلقي. ولعل من أطرف الأمور أن المؤلف يحاول التنقل بين المناطق بالمواصلات البسيطة التي يستقلها سكان البلد المزار متجاهلا السيارات والطائرات المريحة متحملا معاناة تعطل المركبة، والزحام والبطء الشديد!
ولعلنا نستطيع أن نقول إن أجمل رحلات هذا الكتاب هي رحلته إلى فيتنام، حيث تفرد بها عن غيره من الرحالة الذين دونوا رحلاتهم، ففيتنام ليست البلد الحاضرة بقوة في صفحات أدب الرحلة العربي، كما يبرز لنا من تفاصيل هذه الرحلة مدى تفاعل المؤلف مع أهل هذه البلد البسطاء، وكيف تقبل فرحتهم بزيارته لأحد أحيائهم الفقيرة حين بدا لهم ذلك " المليونير" الذي يستحق التهافت عليه والذي يستحق أن يكرم لأنه ضيف الحي بأكمله. كما سنجده يلتقي بشخصيات مميزة في هذه البلد، منها ذلك الراهب الذي يكاد يكون متضلعًا في تاريخ عمان وحرب ظفار ومجريات الأحداث، مما أدهش المؤلف! وهذه اللقاء هو كفيل بإدهاش القارئ أيضًا، وهذه النبرة المغلفة بالغرائبية هي المطلوبة في أدب الرحلة عامة، وهو ما يبرز أهم لفتة في هذا النمط من الأدب التي تتمثل في تلقي كل طرف للآخر على اختلاف طبائعهم وعاداتهم وهو أمر يصعب وصفه أو تصوره في هذه الأسطر المعدودة ما لم يتطلع القارئ بنفسه على هذه التفاصيل خاصة في رحلة المؤلف إلى فيتنام.
ومما يعزز ثراء هذه الرحلة زيارة المؤلف إلى متحف الحرب الذي يعرض فيه الفتناميون الفظائع التي ارتكبها الأمريكان على أرضهم، حيث يتخذ المؤلف من ذلك منطقًا لسرد بعض التفاصيل المتعلقة بحرب فيتنام، ومن ثم يقارن الوضع مع الدول العربية. وسنلاحظ أن المؤلف كثيرًا ما يشير لنقاط المقارنة بين البلد المزار والوطن العربي خاصة بلاد المغرب العربية التي تتكرر في رحلته بصورة واضحة أكثر من ذكره لعمان في مرجعياته ومقارناته، ويبدو السبب في ذلك أنه مكث في المغرب مدة زمنية طويلة جعلتها تقفز إلى فكره فور رؤيته ما يمثل تقاربًا بينها وبين أي حدث في البلد المزار.
رحلة عين وجناح رحلة ثرية جدًا، وفي كل فصل منها ما يميزه عن الآخر وما يدفع القارئ لإعادة الاطلاع عليه، فقد استطاع المؤلف أن يمزج فيها متعة السفر ومغامرة الاكتشاف وجمال اللغة والأدب بجميع صوره، حيث نجده يضمن قصائدًا وأشعارًا ومقولات ومقتطفات بين ثنايا كل رحلة، بحيث يعرض للمتلقي  صورة متنوعة للبلد المزار، صورة تفيض بروعة أدبها وغرائبية بيئتها وبساطة أهلها وأصالة عاداتها، وهذه التفاصيل هي ما تؤثر في نفس المتلقي وتجعله راغبًا في تحقيق زيارة مماثلة، وحتى وإن يتحقق له ذلك، فرحلة عين وجناح تمنحه شيئًا عن ذلك البلد البعيد المنال عنه.

ليست هناك تعليقات: